مصطفى عبده يكتب عن .. الاستحواذ العكسي … والفجوات الذهنية
المستوى الأول
يعرف الأستحواذ ” acquisitions ” بأنه عملية شراء وأقتناء تقوم به شركة ما تسمى ” الشركة القابضة أو الشركة الام ” لشركة أخرى تسمى ” بالشركة التابعة ” تستحوذ فيه الشركة الأم على صافي أصول الشركة التابعة ويكون للشركة الأم السيطرة والقدرة على التحكم في السياسات المالية والتشغيلية بالشركة التابعة بحكم كونها هي المقتنية لأغلبية حقوق التصويت على تلك القرارات المالية والتشغيلية بمجلس إدارة الشركة التابعة.
في حين أن الاستحواذ العسكي ” reverse acquisitions ” هو حالة استثنائية وعكسية لما سبق وفيه تستحوذ الشركة التابعة على الشركة الام , بمعنى ان شركة صغيرة (تابعة) وغير مقيدة بالبورصة تتمكن من الأستحواذ على شركة كبيرة ومقيدة ببورصة الأوراق المالية فتكون السيطرة والقدرة على التحكم في السياسات المالية والتشغيلية بالشركة الكبيرة في يد الشركة الصغيرة التى اقتنت واستحوذت على الشركة الكبيرة وهي بذلك حالة نادرة واستئنائية.
ودعنا نتخيل لتقريب المفهموم صديق لم يرزق بأبناء لمدة 15 عام مثلا (وهذه حالة استثنائية وليس المعتاد) ثم أكرمه الله بولد بعد هذا العمر ونتيجة للحرمان من هذه النعمة لمدة طويلة فان جميع طلبات ابنه (الشركة الصغيرة) ورغباته مجابة حتى وان كانت تخص الاب نفسه (الشركة الكبيرة) أى أن هذا الابن لديه القدرة على التحكم بقرارات والده المالية والاقتصادية (التحكم في السياسات المالية والتشغيلية ولكن هنا بالشركة الام وليس بالشركة التابعة الصغيرة كما هو المعتاد).
المستوى الثاني
28 أكتوبر عام 2021م أعلنت شركة فيسبوك عن تغيير أسم الشركة الأم لها والمالكة لعدة تطبيقات (مثل الواتس آب والانستجرام والماسنجر …. إلخ) والتى كانت هي المالكة لهم ليصبح اسم الشركة (ميتا) واللوجو الخاص بها هو علامة شبيهة بعلامة اللانهائية (∞) مع استهداف تغيير اسم تطبيق ” فيس بوك ” ليصبح ” ميتا فيرس ” وذلك باستخدام الواقع الافتراضي المعزز لربط واستخدام جميع التطبيقات المشار اليها واكثر في هذا التطبيق عن طريق نظارة الواقع الافتراضي والذي يخلق تجربة حية وفريدة من نوعها حسب الاعلان التشويقي الذي قدمته الشركة مثل القدرة لعقد اجتماعات افتراضية ، الى السكن في منزل الاحلام على جزيرة خاصة بك لوحدك ، مع دخول السنيما مع صديق متواجد في الحقيقة في قارة اخرى ولكنه افتراضيا سيحضر معك ….الخ ، وذلك باستخدام نظارة الواقع الافتراضي (وهذا النظارة لمن يجربها هي عبارة عن جهاز مثل الصندوق الصغير يحمل على الرأس ويوضع أمام العين مباشرة ويستخدم تطبيق يدعى “VR” اختصاراً لما يسمي الواقع الافتراضي ” virtual reality ” وببساطة هو يعطيك صور (فيديوهات) بزاوية 360 درجة في جميع الاتجاهات اي اينما وجهت رأسك ستجد محتوي بصري للمكان الذي تتواجد به فاذا كنت في السماء ستجد اعلى منك وحولك منظر بديع جداً للنجوم وأسفل منك ستجد منظر خلاب للسحاب وهكذا اذا كنت على البحر او في الملاهي تركب قطار الرعب او انك جزء من فيلم ….والذي اكلمك عنه هو الموجود الان وحاليا بعام 2021م وما قبلها، فيستطيع ان ينقلك مباشرة لما تشاهده حيث يعطي لعقلك صور افتراضية ثلاثية الابعاد لايستطيع العقل ان يميزها عن الواقع الفعلي وهو ما قد تشاهده بالصدفة على الانترنت وتعتبره موقف كوميدي وتضحك عليه لشخص يصرخ من الرعب والذهول وهو يرتدي تلك النظارة لان عقله لم يستطيع التفرقة بين الصورة الافتراضية وقد ترجمها العقل على أن العين ارسلت له اشارات بصرية لواقع محيط به من جميع الاركان يوجد به احداث خطرة وهو ما يدفع العقل بصورة تلقائية لمخاطبة سائر الجسد لارسال اشارات استغاثة (عن طريق الصراخ على سبيل المثال او حركات لا أرادية لليدين بدفع الهواء امامه والذي يراه خطر محدق به ) وهو بالتأكيد ليس مشهد كوميدي حيث ان مثل هذه التجربة ستعلق في الذهن مثلها مثل بعض الاخلام التى قد نراها اثناء النوم أو مثل بعض المواقف النادرة الخطرة التي قد تعرضنا لها فعليا في حياتنا اثناء اليقظة ….الخ) وما سبق يعد تجربة بدائية موجودة حالياً مقارنة بما يخطط له تطبيق الفيس بوك والذي خصص له ميزانية مقدرة بمبلغ 10 مليار دولار لتطوير ما سبق تحت اسم ” ميتا فيرس ” والذي يعني حسب تفسير البعض على انه ما وراء العالم (“ميتا” تعنى ما وراء في حين ان “فيرس” هي اختصار يونيفيرسال وهو العالم).
وهذا وفي جميع المقالات السابقة كنا نتحدث في المستوى الثاني عن أحداث تاريخية لشركات ذات علاقة بمحتوى المقالة، وكما كنا نذهب للأحداث التاريخية ونستعرضها يمكننا النظر للمستقبل واستعراضه أيضا (واسمع قارئ يقول لي هل يمكننا الذهاب للمستقبل الان….لذا دعنا نختبر صحة ذلك، فاذا كان أصبع ” الخنصر” يحمل الرقم (2) وأصبع ” البنصر” يحمل الرقم (4) والاصبع ” الوسطى” يحمل الرقم (6) في حين أن أصبع “السبابة” يحمل الرقم (8) الى الأن ماسبق يعد أرقام ومعلومات تاريخية لانها أصحبت معلومة لنا ، وحين يُسأل عن الرقم المتوقع أن يحمله أصبع ” الأبهام ” بدلالة المعلومات السابقة التاريخية ( وهذه “حتى الان” معلومة مستقبلية غير معلومة لنا ) فإنه من المتوقع بنسبة تتخطى حاجز 90% أن يكون الرقم الذى يحمله أصبع ” الأبهام “هو الرقم (10) وهذا ما يسمي التنبؤ بالاحداث المستقبلية بدلالة المعلومات والاحداث التاريخية.
لذا دعنا أنا وأنت نذهب معاً الان للمستقبل بعد 10 سنوات من الان وتحديداً بدايات عام 2032م وفي هذه السنة دعنا نفترض أنه يوجد شاب حديث التخرج (وذلك مع افتراض استمرار نفس الانظمة التعليمية القائمة بعام 2021م) فهو تخرج مايو 2031م ( اي هذا الشاب بنهايات عام 2021م هو طفل لديه من العمر 11 او 12 سنة من عمره ) هذا الشاب الان بعام 2032م قد تعود على استخدام تطبيق ميتا فيرس وتعود على استخدام النقود الرقمية (بعد اختفاء النقود الورقية بعدما وصل الشمول المالي للجميع وتحولت النقود من ورق الي كروت فيزا الي أساور توضع على معصم اليد بعدما اصبح موجود لكل مواطن رقم تحويل بنكي بين البنوك يسمى رقم الايبان وأصبحت التحويلات البنكية تتم لحظيا بعد أن كانت تتحول باستخدام ACH أو ما كان يسمى المقاصة الآلية ” automated clearing house ” خلال ساعتين او السويفتات خلال يومين …الخ وبعدما اختفت البنوك بشكلها التقليدي بعدما اندمج معظمها في كيانات كبري واصبحت مجرد برامج وتطبيقات على الهاتف المحمول ….وماسبق ليس ضرباً من الخيال وانما هو الواقع الذى يقره وقاله كبار المصرفيين بمصر والعالم ، لذا هذا الشاب لديه واقع افتراضي يتخطى حدود العقل والمعقول والمنطق …..وأيضا حدود الامكانيات في انه يستطيع ان يركب اغلى انواع السيارات الفارهة “افتراضيا” ويذهب بها الي قصره المنيف المطل على البحر الواسع ومنه يركب اليخت الخاص به ليذهب الي جزيرته الخاصة ليقابل اصدقائه “الافتراضيين” … ثم افترض بعد ذلك ما تشاء تخيله، وهذا كله يعطي لعقل هذا الشاب حديث التخرج إشارات بصرية ثلاثية الابعاد محيطة به من جميع الجوانب يقوم فيها بالبيع والشراء بنقوده الرقمية ويقترض بحسابه البنكي الرقمي ” الفعلي” ليشتري ما يريده “أفتراضياً”.
وهنا يظهر لنا ويطفو على السطح التساؤل التالي هل ” الميتا فيرس ” ستكون احد اهم محفزات الانتاج ودعائم الاقتصاد في المستقبل ام انها ستكون أحد أهم ركائز مثبطات الانتاج وأحد عوامل هدم الاقتصاد في المستقبل؟
وبعبارة بسيطة ما هو الحافز والدافع لهذا الشاب المستقبلي (والطفل حالياً) في أن يذهب لعمل فعلي يقوم فيه بانتاج منتج حقيقي وفعلي ملموس “وليس منتج افتراضي ” ليحصل على دخل حقيقي وملموس يقوم بادخاره ليشتري سيارة حقيقية فعلية ملموسة “وليس افتراضية” ويقتني منزل صغير ملموس بجميع اركانه ليؤثث سكن له يتزوج فيه مع شريكة له ملموسة حقيقة ليكون أسرة، وهو لديه افتراضيا اغلى المنازل والسيارات وهو يستطيع ان يجلس مع الفنانة او المطربة او حتى مع كليوباترا شخصيا ً ومع الاصدقاء الذي يختارهم افتراضيا، ويصبح بذلك اسير لهذا العالم الافتراضي في الوقت الذي يتم فيه تعليم الالات كيفية الرسم وكيفية التعلم من التجارب واخطاء الالات ومحاولة تعليمهم معاني المشاعر الانسانية…ألخ.
هذا الطفل لا يعى الان اي شيء مما سبق وحتى عندما ما يتخرج لن يعى ويدرك الاسباب عن توقف الكثير من المصانع عام 2022م وما بعدها وتوقف سلاسل التوريد وعدم وجود مواد خام تدخل فى المواد المصنعة وطول مدد الشحن وقد لن يجد من يشرح له معنى التضخم والكثير من المعاني الاقتصادية الاخرى وما يحفز الاقتصاد وما يثبطه (لا زلت اتذكر شكوي الكثير من المنتجين واصحاب المصانع من عندما دخل ما يسمي التوكتوك وكيف كان له تأثير سلبي على وجود عمالة مدربة او سائقين والذين اتجهوا الى قيادة هذا التوكتوك لانه يحقق لهم ربح أعلى ولا يحتاج الى مهارات او تطوير مهارات وهذا ما يشير الى القاعدة الاقتصادية القديمة القائلة بان “العملة الرديئة … تطرد العملة الجيدة من التداول” فقيادة التوكتوك اكيد انها تقل عن العمل على خط انتاج او قيادة سيارة نقل …الخ ).
لذا فهل بعد كل ما سبق سيقوم ” الميتا فيرس” بعملية استحواذ عكسي على الاقتصاد والافراد والمجتمعات في العالم كله بصورة استثنائية ……أم ماذا ؟
وهل هذا الطفل سيجد من يقول له ويعلمه كيف يتعامل مع هذه المخاطر المحدقة بنا جميعاً ؟ وهل نحن كأباء وامهات دورنا يوجب علينا شئ تجاه مثل هذا الاستحواذ العكسي المخطط له بعناية ودعنى اكرر لك المبلغ الذي خصصته الفيس بوك لتطوير “الميتا فيرس” وهو 10 مليار دولار وهو مايتخطى مبلغ 155 مليار جنيه مصري واذا كان هذا هو مبلغ الاستثمار المقدر فما هو العائد المتوقع على هذا الاستثمار للشركة ….. وليس لنا بالتأكيد؟
.
المستوى الثالث
اُختتمت المقالة السابقة والمعنونة بـ ” معدل العائد الفعال … وقوة التركيز ” بامكانية غلق اي ” فجوات ذهنية ” محتملة لاي قرار وخاصة القرارات الاقتصادية من خلال إفساح وتوسيع نطاق المجال الادراكي إلى حدوده القصوى ، فما هو المقصود بالفجوات الذهنية؟
عادة ما يقصد علمياً بالفجوة هو حجم الاختلاف والفرق بين كل من المستوى الحالي والمستوى المتوقع والمستهدف تحقيقه، ولتفهم المقصود بالفجوة الذهنية دعنا نتخيل معا هذا الطفل الموجود في المستوى الثاني وعمره الان 12 أو 13 سنة وهو يقف على شفا حفرة هذا الحفرة (الفجوة) ان استطاع ان يتخطاها سيكون عقله اكبر من سنه وأن وقع فيها مهما كبر جسده وعمره سيظل عقله يقف عند 12 سنة، فكثيرا ما نقابل شباب صغير في السن ولكن عقله ناضج بما يكفى ليتخطى عمره ورجاحة عقله تتخطى من لديه خبرات وتجارب في عمر 50 أو 60 سنة ومن ناحية اخرى قد نقابل من يتخطى عمره 60 ولكن نفاجأ بان مجمل خبراته وتجاربه لا تتخطى حاجز 15 سنة فما هى هذه الحفرة او الفجوة ؟ هى ما اصطلح على تسميتها بالشماعة “او المبررات” ابى لم يقم بتوفير كذا وكذا لي، الشركة او المؤسسة التي اعمل بها لم تعلمنى او لم تقم بتدريبي على كذا و كذا الدولة التى اعيش واحيا فيها لم تقم برعايتي وتوفير كذا كذا ….وهكذا هناك دوماً سيل وفيضان من المبررات لعدم السعي والاجتهاد او الخوف من الفشل او تحقيق النتائج المرجوة او المستهدفة. وكل هذا يمكن النظر اليه على انه استحواذ عكسي في حين ان الاستحواذ الاصلي هو معرفة والتيقين ان الله سبحانه وتعالي قد سخر الكون كله من اجلك أنت حتى وان لم ندرك ذلك بكامل وعينا فقد اعطانا الاب والام وغيرنا حرم منهمم واكرمنا بالعمل في حين ان غيرنا لازال ينتظر الحصول عليها وانعم علينا بافضل دولة ……الخ
لذا فانه بامكانية غلق اي ” فجوات ذهنية ” إفساح وتوسيع نطاق المجال الادراكي إلى حدوده القصوى وإدارك معاني جديدة و تحقيق مستهدفات كبرى لم تكن لتتحقق في وجود مثل هذه الفجوات.
الخلاصة
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة المجادلة بالآية رقم (19) ” ٱسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ ٱلشَّيْطَٰنُ فَأَنسَىٰهُمْ ذِكْرَ ٱللَّهِ ” فدوما الاستحواذ العكسي هدفه السيطرة على الانسان لابعاده عن ذكر الله ونعمه وكرمه والطريقة المثلى لذلك هو التخويف بالفقر وعدم المقدرة لذا فان الله سبحانه وتعالى يقول فى سورة آل عمران بالاية رقم (175) ” إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ” صدق الله العظيم.
من الجيد الانتباه لطبيعة الاستحواذ هل هو أصلي وفي اتجاه الله سبحانه وتعالي وهو بذلك افضل استثمار ويحققق اعلى العوائد ام انه استحواذ عكسي ويخدم غير الله سبحانه وتعالي وبالتالي فانه مهدر الطاقات ولا عائد له اوعليه ولا يحقق اي توازن …تأكد دوما من اتزان معادلة الميزانية.
مصطفى عبده
الخبير الاقتصادي