محمد عبد العال يكتب عن.. محافظ البنك المركزي المصري وتحديات المرحلة القادمة

يواجه المحافظ مجموعة من التحديات المرتبطة بسياسة استهداف التضخم

فيما يبدو لم تعد وظيفة محافظ البنك المركزي في عصرنا الراهن تتركز في الإشراف على تحقيق الاستقرار في الأسعار ، واحتواء التضخم فقط .. صحيح تلك من أهم وظائفه ، وبالطبع هناك مهام أخرى متعددة ومهمة على المستويين الدولي والمحلي الرقابي والتنسيقي ،،، ولكن كما قالت أليس ريفلين، نائب رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي السابقة في التسعينات ، إنه يتعين أن نضيف وظيفة جديدة لمهام محافظ البنك المركزي وهي “القلق” ، وأنا بدوري أضيف وظيفة أخرى هي “التحدي”،، إنها مهام غير اعتيادية لرجال غير إعتياديين هم محافظو البنوك المركزية.

“القلق” يُولد من حالة عدم اليقين التي يعيشها العالم منذ أزمة 2008 ، التي بدأت ازمة عقارية محلية أمريكية ، وانتهت أزمة مالية عالمية ، ثم تلاها صدمة كوفيد19 العالمية ، وصولا إلى تداعيات الأزمة الروسية الأوكرانية الراهنة.

كل أزمة من تلك الأزمات لها ظواهر ودرجات من القلق ، ولها أشكال من التحديات ، والقلق هنا هو أمر حتمي وإيجابي إنساني اجتماعي وله دوافعه العلمية والاقتصادية ، فهو تعبير عن الرغبة في إيجاد حلول استباقية لمشاكل وصدمات مفاجئة وخارجية يتحمل المسؤولية الأولى فى مواجهتها محافظ البنك المركزي ، فإذا ما توفرت مظاهر للقلق الإيجابي ففي الغالب الأعم ما سيصاحبها موجات من ردود الأفعال الإيجابية تتحدى وتصطف لمواجهة تداعيات القلق ومحاولة احتواء أسبابه ، وهذا هو ما نقصده بوظيفة التحدي ، والمقصود هنا هو التحدي الذي يعني أهمية مواجهة التحديات المستحدثة بأساليب واستراتيجيات قادرة على أرض الواقع على تحقيق أهداف وفرض حلول غير اعتيادية في ظروف اقتصادية عالمية ومحلية سريعة التغير والتطور ، في ظل أوضاع جيوسياسية مضطربة وليس لها ثوابت.

لقد تناول العديد من الكتاب والمحللين مؤخرا وعلى الساحة المصرية ووسائط التواصل الاجتماعي خلال اليومين الماضيين أهم التحديات والملفات الممتدة مع محافظ البنك المركزي المصري في فترة التكليف والتجديد الجديدة ، والتي أجمعوا على أنها لن تخرج عن معالجة مجموعة الملفات الأشهر القائمة والتي يمكن حصر أهمها في ، العمل على حلحلة الاختناقات في التفاوض مع صندوق النقد الدولي وإتمام المراجعات المعلقة ، تحقيق استقرار سعر الصرف واختيار درجة مرونته السعرية ، احتواء التضخم الذي سجل أرقاما غير مسبوقة فى شهره الأخير ، التنسيق مع السياسة المالية لتحقيق معدل نمو اقتصادي مناسب وخفض البطالة ، صيانة الاحتياطي من النقد الأجنبي والتأكد من تغطيته الاحتياجات الإستراتيجية لمصر لفترة لا تقل 5 أشهر ، كما أنه على رأس تلك الملفات ملف احتواء التضخم واختيار السياسة النقدية المناسبة للهبوط بمعدل التضخم إلى أرقامه المستهدفة.

تلك هي أهم وأشهر الملفات المعروفة ، ولكن في تقديري هناك بعض الأمور الأخرى التي قد لا تكون ظاهرة ، ولكنها تتكاتف مع كواليس العمل التنفيذي الصعب أثناء الإشراف على تحقيق وصياغة تلك الأهداف السابق ذكرها ، وتحتم – إذا ما مع صح التعبير – استحداث الوظيفتين الجديدتين السابق الإشارة إليهما لمهام محافظ البنك المركزي ، أولهما وظيفة “القلق” ، وثانيهما وظيفة “التحدي”.

 وفيما يلى نذكر أمثلة لبعض مهام الوظيفتين على أرض الواقع:

أولى أهم مظاهر القلق والتحدي حين يتبادر في ذهننا التساؤل التالى وهو مدى توقع استمرار نجاح استراتيجية استهداف التضخم لتحقيق استقرار الأسعار ، في ظل استمرار ارتفاع معدل التضخم بفارق كبير عن مستهدفاته وعدم نجاح سلسلة الرفع المتتالي لأسعار الفائدة حتى الآن في كبح جماحه ، والذي يزيد من مظاهر القلق عدم توفر كل المتطلبات الأساسية المسبقة من أجل توفير البيئة الأساسية اللازمة لضمان نجاح سياسة استهداف التضخم في تحقيق الاستقرار النقدي.

فعلى سبيل المثال عدم استقرار الاقتصاد الكلي يؤدى بالطبع إلى تقليص فاعلية السياسة النقدية في استهداف التضخم ،كما أن تناقض السياسة المالية مع السياسة النقدية في بعض خطوط التماس ، وهو أمر غير مقصود ، مثل وجود مستوى عال من الدين العام “التمويل عن طريق عجز الموازنة” سيجعل الوصول إلى معدلات التضخم المستهدفة أمر صعب ، مما يؤدي حتماً إلى المزيد من رفع أسعار الفائدة ، وهو ما يؤدي بدوره إلى تزايد الارتفاع في الدين العام ، وارتفاع معدل التضخم.

على الجانب الدولي الخارجي ، فإن عدم توفر الدرجات المطلوبة من الاستقرار الخارجي الجيوسياسي يعرضنا دائما إلى مخاطر صدمات العرض العكسية الناتجة من ارتفاع أسعار السلع المستوردة عند تفاقم الأزمات والأحداث العالمية ، كما أن أسواق السلع والخدمات لدينا تتصف بعدم الكفاءة ومنخفضة المرونة ، مما يجعل التضخم المحلى أقل استجابة لإجراءات السياسة النقدية ، أضف إلى ذلك التغير في معدل التضخم الناتجة عن التغيرات السعرية في سعر الصرف نتيجة صدمات العرض.

إذن سوف يواجه المحافظ في الفترة القادمة مجموعة من التحديات المرتبطة بسياسة استهداف التضخم.

ثانى أهم مظاهر القلق والتحدي يتمثل في كيفية المواءمة بين مثلث سعر الصرف ، ذلك المثلث الذي يمثل أحد أهم أضلاعه تحفظ سياسي على عدم تحريك سعر الصرف حالياً من أعلى سلطة في الدولة حماية لمصالح المواطنين الاجتماعية ، والضلع الثاني ضغوط صندوق النقد الدولي ومؤسسات التصنيف الائتماني بضرورة الالتزام بسعر صرف مرن ، أما الضلع الثالث فيتمثل في محدودية فوائض أرصدة النقد الأجنبي اللازمة لمنع استمرار هرولة الجنيه تحت إغراءات ومضاربات السوق الموازية والتي ستجعل أي تحريك لسعر الصرف في ذات اليوم ممتصاً من قبل أباطرة الدولرة والسوق السوداء.

إن واقع الأمور يشير إلى أن معركة المحافظ للخروج من مثلث سعر الصرف ستستمر فترة ليست بالقصيرة ، وسيكون من أهم شواغل المحافظ المقلقة أيضاً تحدى الوصول إلى سعر صرف مرن وعادل ، ويحقق مصالح كل المتعاملين في أسواق النقد والمال ، ويصل بالجنيه المصري الى نقطة توازن يمكن أن يتحقق عندها إمكانية مساعدة السياسة النقدية في تحقيق استقرار الأسعار ، واحتواء التضخم من ناحية ، وإمكانية تحفيز الاستثمار الأجنبي المباشر وغير المباشر ، وجذب حوالات المصريين في الخارج إلى شرايين الجهاز المصرفي والمساعدة في تجفيف السوق الموازية من ناحية أخرى.

محمد عبد العال                                                                                                                                              خبير مصرفي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى