محمد عبد العال يكتب : الفائدة السلبية كيف تؤثر على الإقتصاد والمواطنين؟
تعد هذه الظاهرة تحديا كبيرا للبنوك المركزية وتتطلب استراتيجيات وسياسات فعالة للتصدي لها والحد من آثارها السلبية على الاقتصاد.
ظاهرة الفائدة السلبية هي حالة اقتصادية غير تقليدية ، حيث تكون معدلات الفائدة الإسمية تحت الصفر ، أي بدلاً من أن يحصل المودعون على عائد مقابل إيداعاتهم لدى البنوك فإنهم يكونون ، على العكس ، ملزمون بدفع الفائدة للبنوك مقابل الاحتفاظ بأموالهم ، وهذا هو الشكل التقليدي المعلوم لمفهوم الفائدة السلبية.
وحقيقة الأمرأن هذه ليست هي الحالة الوحيدة ، ولكن العائد السلبي يمكن أن يظهر في سيناريوهين مختلفين ، أولهما هو الفائدة السلبية الإسمية كما ذكرنا سابقاً ، وثانيهما العائد السلبي الواقعي ، الذي يظهر كأحد تداعيات أو أعراض التضخم ، ويحدث عندما تكون معدلات الفائدة الإسمية أقل من معدلات التضخم ، وفي هذا السيناريو تكون الفائدة التي يحصل عليها المودعون من ودائعهم أقل من معدل تضخم الأسعار، مما يعني أنهم يفقدون القوة الشرائية لأموالهم مع مرور الوقت ، وهذا يعني أن القيمة الحقيقية لأموالهم تتناقص على الرغم من أنهم يحصلون على فائدة إسمية كبيرة
وعلى سبيل التوضيح إذا كان لديك وديعة بمعدل فائدة 20% سنوياً، ولكن معدل التضخم السنوي هو30% ، فإن القوة الشرائية لنقودك تنخفض فعلياً بمقدار 10% سنوياً (معدل الفائدة الإسمية 20% مطروحًا منه معدل التضخم 30%).
وبعبارة أخرى الفائدة السلبية كظاهرة اقتصادية تحدث عندما يكون معدل التضخم أعلى من معدل الفائدة السائدة ، مما يؤدي إلى تقليل قيمة الأموال المودعة ، وتعد هذه الظاهرة تحديا كبيرا للبنوك المركزية وتتطلب استراتيجيات وسياسات فعالة للتصدي لها والحد من آثارها السلبية على الاقتصاد.
ومن المهم فهم أسباب حدوث هذه الظاهرة وتحليل طبيعتها لتطوير استراتيجيات فعالة لمكافحتها.
تختلف أسباب ظهور وتواجد الفائدة السلبية ، فالفائدة السلبية الإسمية التي يدفع فيها المودع للبنك عائدا بدلا من أن يحصل هو على عائد لها أسباب ومميزات وعيوب ، تختلف عن النوع الثاني الذى يولد في سياق التضخم.
النوع الأول يكون مرجعه السياسة النقدية للبنك المركزي ، حيث يتبنى هنا المركزى سياسة تيسيرية فائقة التحفيز للنمو الاقتصادي ، فالبنك المركزي هنا في الغالب ليس لديه أية فجوات أو قصور في السيولة ، وأسعار الصرف تكون في الغالب مستقرة ، وأيضاً والأهم أن معدل التضخم السائد يكون في حدود مستهدفاته الموضوعة ، وأن الميل الحدي للادخار أكبر من الميل الحدي للاستثمار ، هنا في مثل تلك الظروف والعوامل تكون ظاهرة الفائدة السلبية متوافقة تماما مع السياسة النقدية المحفزة للنمو الاقتصادي ، وتتوافق مع مصالح غالبية العملاء والمستثمرين ، لأن الفائدة السلبية هنا تجعل التمويل اللازم للأنشطة الاقتصادية رخيصاً ، وتهدف إلى تشجيع الأفراد والشركات على الاقتراض والإنفاق بدلاً من توفير الأموال وإيداعها في البنوك ، مما يحفز ويعزز النشاط والنمو الاقتصادي.
وتجعل معدلات الفائدة السلبية القروض أرخص سواء للشركات او الأفراد مما يمكن أن يؤدي إلى زيادة الاستثمار التجاري والإنفاق الاستهلاكي، وبالتالي دعم النمو الاقتصادي ، كما تؤدي إلى تقليل تكلفة الدين.
الفائدة السلبية بهذا المعنى تعني أن الحكومات يمكن أن تقترض بأقل تكلفة ، بل وربما تحصل على مدفوعات من الدائنين على الأموال التي يودعونها في المصارف.
ولكن هناك عيوب أيضا لظاهرة الفائدة السلبية ، فالفائدة السلبية يمكن أن تثبط الأفراد عن الادخار، مما قد يضر بالفئات التي تعتمد على دخل الفوائد من توفيراتهم ، وقد يلجأ الأفراد إلى سحب أموالهم من البنوك والاحتفاظ بها نقدًا لتجنب دفع الفائدة، مما قد يؤدي إلى انخفاض السيولة المصرفية ، كما يمكن أن تؤدي الفائدة السلبية إلى تأثير سلبي على ربحية البنوك، مع تقليل هوامش الفائدة بالنسبة للإقراض والاقتراض.
وهناك نماذج متعددة تاريخيّة لدول مختلفة ، كانت أو مازالت أو في عصرنا الراهن حتى الآن ، تطبق الفائدة السلبية ، ومن أشهر تجارب أو النماذج التاريخية أو الحالية ، نجد على سبيل المثال وليس الحصر ، بنك اليابان الذي كان من أوائل البنوك المركزية التي طبقت سياسة الفائدة السلبية في محاولة لتحفيز الاقتصاد ومنع الانكماش ، وفي الاتحاد الأوروبي وأيضا البنوك السويسرية والسويدية والدنماركية قامت بتبني سياسة الفائدة السلبية في فترات متفاوتة لمواجهة تحديات اقتصادية مختلفة ومنوعة.
أما النوع الثانى لظاهرة الفائدة السلبية فيظهر بوضوح حين يتفوق معدل التضخم على معدل الفائدة السائدة، مما يؤدي إلى أن تفقد الأموال المودعة أجزاءا من قيمتها وقوتها الشرائية ، كما سبق أن أوضحنا.
وتعود أسباب حدوث الفائدة السلبية في هذا النوع إلى عدة عوامل ، منها السياسات النقدية للبنوك المركزية، والتغيرات في الظروف الاقتصادية والسياسية، والأحداث عالمية مثل الأزمات والصدمات المالية المحلية والدولية ، ويتطلب فهم أسباب تلك الظاهرة تحليلا دقيقا لضبط السياسات والاستراتيجيات اللازمة لمعالجتها.
والعائد السلبي الواقعي يمثل تحديًا كبيرًا، خاصة في فترات التضخم المرتفع ، وللتعامل مع هذه الظروف يحتاج الأفراد والمؤسسات إلى استراتيجيات استثمار مبتكرة ومرنة ، بينما تعمل البنوك المركزية والحكومات على تحقيق استقرار اقتصادي أكبر.
نعم ،، هناك العديد من الدول الناشئة أو النامية التي واجهت مشكلة العائد السلبي الواقعي، حيث يكون معدل التضخم فيها أعلى بكثير من معدلات الفائدة الإسمية المقدمة على الودائع.
وهناك أيضا أمثلة متعددة لدول تتجلى فيها ظاهرة الفائدة السلبية الملازمة لمعدل التضخم المرتفع ، منها مصر والتي قد يصل متوسط العائد السلبي بها نحو 10% ، ويتبنى البنك المركزي حاليا سياسة نقدية فائقة التشدد ، مستخدما معظم أدواته ، فقام برفع الفائد خلال النصف الأول من العام الجاري بمقدار 800 نقطة أساس ، منها في قفزة تاريخية في السادس من مارس بمقدار 600 نقطة أساس ، بالإضافة إلى فتح سقف ودائع العملية الرئيسية الأسبوعية ليقبل فوائض البنوك ، والهدف هو استهداف التضخم ليصل تدريجيا إلى قرب مستهدفاته المخططة ، وتقليص الفجوة السلبية بين العائد ومعدل التضخم تدريجيا ، ومن الملاحظ أن معدل التضخم العام والأساسي في مصر قد بدأ في التباطؤ خلال الـ 3 أشهر الماضية ، متخذا مسارا هبوطيًا تحت تأثير السياسة النقدية المتشدد.
وتعانى الأرجنتين منذ فترة طويلة من معدلات تضخم مرتفعة، والتي غالباً ما تتجاوز معدلات الفائدة المقدمة على الودائع ، وهذا الوضع يؤدي إلى نقص حاد في القوة الشرائية للعملة المحلية، مما يدفع المستثمرين والأفراد للبحث عن خيارات أخرى للحفاظ على قيمة أموالهم، مثل الدولار الأمريكي أو الأسهم.
هناك أيضا حالة تركيا ، حيث شهدت في السنوات الأخيرة ارتفاعاً كبيراً في معدلات التضخم، بينما بقيت معدلات الفائدة المقدمة على الودائع منخفضة نسبياً ، وهذا الفارق أدى إلى انخفاض القوة الشرائية لليرة التركية وزيادة الضغط على الاقتصاد التركي ، ولجأ البنك المركزي التركي في بعض الأحيان إلى زيادة معدلات الفائدة لمحاولة التحكم في التضخم، ولكن التحديات الاقتصادية والسياسية قد تجعل من الصعب تحقيق توازن مستدام.
وفنزويلا تعتبر حالة شديدة التطرف من حالات العائد السلبي الواقعي، حيث تعاني البلاد من تضخم مفرط ، مما يجعل معدلات الفائدة على الودائع الفعلية سالبة بشكل كبير ، والأفراد في فنزويلا غالباً ما يلجأون إلى استخدام العملات الأجنبية أو السلع الأساسية كملاذات آمنة لحفظ القيمة.
كما شهدت نيجيريا في بعض الفترات معدلات تضخم مرتفعة تتجاوز معدلات الفائدة الإسمية بسبب التضخم المرتفع نتيجة لعوامل مختلفة ، بما في ذلك تقلبات أسعار النفط، حيث الاقتصاد النيجيري يعتمد بشكل كبير على عائدات النفط، بالإضافة إلى السياسات المالية والنقدية المتبعة.
وتحاول البنوك المركزية في الدول التي تظهر فيها ظاهرة الفائدة السلبية بسبب ارتفاع التضخم ، مستخدمة مجموعة من الأدوات والإجراءات والسياسات ، أهمها زيادة معدلات الفائدة الإسمية ، في محاولة لجعل أسعار الفائدة أكثر جاذبية للمودعين وسحب السيولة من ناحية ، وتقليص التوسع الإئتماني من ناحية أخرى ، وبالطبع تقوم البنوك المركزية برفع معدلات الفائدة الإسمية إذا كانت الظروف الاقتصادية تسمح بذلك، من أجل جعل أسعار الفائدة تتساوى أو تتفوق على معدلات التضخم ، ولكن هذا يجب أن يتم بحذر لتجنب التسبب في تباطؤ الاقتصاد أو التعرض لمخاطر الركود الحاد أو الركود التضخمي.
ولذلك تتابع البنوك المركزية تأثير الفائدة السلبية بدقة ، وتقوم بإجراء تعديلات في السياسات النقدية بناءًا على التغيرات الاقتصادية ، بل وتقوم بالتواصل مع كافة الأنشطة الاقتصادية لشرح سبب تبني الفائدة السلبية وكيفية تأثير السياسة النقدية المطبقة على الاقتصاد، و في بعض الحالات يقوم البنك المركزي أحيانًا بتطبيق الفائدة السلبية على جزء من الودائع فقط ، لتقليل التأثير السلبي على البنوك التجارية وتقليل ردود الفعل السلبية من المدخرين.
ظاهرة العائد السلبي تمثل تحدياً كبيرًا للحكومات والأنشطة الاقتصادية والأفراد على حد سواء ، خاصة في فترات التضخم المرتفع.
وللتعامل مع هذه الظروف يحتاج الأفراد والمؤسسات إلى استراتيجيات استثمار مبتكرة ومرنة، بينما تعمل البنوك المركزية والحكومات على تحقيق استقرار اقتصادي أكبر ، حيث يمكن للأفراد والمؤسسات الاستثمار في الأصول التي تحمي من التضخم ، مثل السندات المحمية من التضخم أو العقارات ، وأيضاً تنويع الاستثمار في أصول مثل الأسهم والمعادن الثمينة، التي قد تقدم حماية أفضل ضد التضخم.
في الختام، يمكن القول أن التعامل مع مشكلة العائد السلبي الواقعي في الدول النامية يتطلب مجموعة من الاستراتيجيات المتكاملة ، تشمل السياسات النقدية والمالية والتنويع الاقتصادي والتعليم والتوعية.
محمد عبد العال
خبير مصرفي