محسن عادل يكتب .. مشروع الـ 180 ثانية

لعله لا يوجد طفل علي وجه البسيطة لم يسمع حكاية علي بابا الذي خدمه الحظ و الفطنة في الإستيلاء علي كنز عصابة الأربعين حرامي من المغارة السحرية، فقط لأنه امتلك ذاكرة قوية لتذكر كلمة السر، كما امتلكت جاريته قدرات تحليلية هامة لاكتشاف العصابة المختبئة في جرار زيت.

لا أعرف لماذا تدفقت هذه الأفكار مجتمعة ،و أنا أطالع تقرير لـ”بلومبيرج” حول مصرف “ماي بنك” التابع لشركة “آنت فاينانشيال سيرفسيس”، والذي أسسه الملياردير الصيني “جاك ما” مالك شركة علي بابا الناشطة في مجال التجارة الإلكترونية و، أحد اللاعبين الرئيسيين في هذا المجال، ليحصل المقترض على الأموال دون إحتكاك بالعنصر البشري، أو تكديس الأوراق في حقيبة خاصة، أو حاجة للإنتظار في طابور العملاء.

و رغم حداثة عمر المصرف (4 أعوام) فقد أقرض 290 مليار دولار لنحو 16 مليون شركة صغيرة .

المحور الرئيسي لهذه الخطوة ، التي أتصور أنها في طريقها للتوسع بقوة عالميا حاليا ، تتمحور في معرفة ثلاثة عوامل الأول في معرفة مصادر النمو الإقتصادي و محركاته داخل الدولة، فالشركات المتوسطة و الصغيرة تمثل المحور الرئيسي في النمو الإقتصادي لأغلب الإقتصاديات الناشئة، و علي راسها الصين و هو ما يستدعي زيادة ديناميكية تفاعل القطاع المصرفي كممول لها.

العامل الثاني هو الإستفادة من الطفرة التي تتجه لها المعاملات الإلكترونية عالميا، و التي تعتبر محور النمو الإقتصادي الصيني حاليا ، و هو ما حول الصين إلى أكبر سوق للمدفوعات الإلكترونية في العالم.

أما العامل الثالث فهو ما وصلت إليه تقنيات تحليل البيانات الكبيرة Big Data Analysis ، ووفقا للتقرير ، يستغل البنك بيانات الدفع في الوقت الفعلي ونظام إدارة المخاطر لتحليل آلاف المتغيرات المتعلقة بعملية الإقراض .

أسعدني كثيرا أن أري هذا الإتجاه حاليا كرؤيه حقيقية تقوم بها مصر، كنتيجة لتطوير بنية الدولة، ضمن عملية التحول الرقمي لأجهزتها.

فخلال جلسة المؤتمر الوطني السابع للشباب تم إطلاق مبادرة التحول الرقمي، في ظل تأكيد رئيس الجمهورية علي أن عملية التحول الرقمي للدولة هي مسألة “أمن قومي”، وأن التأخر في التحول الرقمي ترتب عليه التراجع في عدة مجالات، وأن مصر ستكون قادرة من خلال هذه المنظومة الجديدة على رؤية الواقع ، وتحسين أداء الدولة بشكل يليق بمصر خلال السنوات القليلة المقبلة.

في ظل هذه الخطوات عالميا و اتجاه مصر للحاق بها يجب أن ندرس بدقة هذه التجربة ، في ظل التقدم الذي برز مؤخرا في مجال المعاملات المصرفية الإلكترونية خاصة في مجال الإقراض.

فالبنك الجديد يقدم معاملاته من خلال الهاتف المحمول، و المقترضون يستلمون النقود فورًا حال الموافقة، وهذه العملية إلكترونيا تستغرق 180 ثانية (ثلاث دقائق)، في غياب تام للعنصر البشري من جانب المصرف، الذي سجل عملاؤه معدل تخلف عن السداد يبلغ 1% ، كما إن معدل الموافقة على القروض لدى “ماي بنك” أعلى بأربعة أضعاف المقرضين التقليديين، الذين يرفضون عادة 80% من طلبات القروض للشركات الصغيرة، ويستغرق الأمر منهم نحو 30 يومًا لمعالجة الطلبات المقدمة لهم.

ذلك كله وفقا لتقرير بلومبرج ، والذي أرجع ذلك صراحة لحصول “ماي بنك” وأقرانه على بيانات جديدة باستمرار ، عبر أنظمة الدفع ووسائل التواصل الإجتماعي وغيرها من المصادر، فإنهم يشعرون بمزيد من الراحة والأمان تجاه المقترضين الصغار.

علما بأنه وفقا للتقرير السابق فإن المصرف يخطط لمضاعفة قائمة المقترضين خلال الثلاث سنوات المقبلة، ويشير إلى أن التكلفة التشغيلية للبنك ، الذي يتخذ من هانغتشو مقرًا له ، تبلغ ثلاثة يوانات للقرض الواحد، مقابل 2000 يوان لدى المنافسين التقليديين.

إن الأمر يحتاج الآن الي إعادة نظر شاملة في الإمكانيات التي تحتاج اليها مصر حاليا لاستخدام البيانات الضخمة وتكنولوجيا الذكاء الإصطناعي لتقديم القروض ، حيث يحتاج ذلك إلى البيئة التنظيمية التي تسهل توليد كمية هائلة من البيانات.

وأتصورأن ذلك أمرا ليس بعيد المنال، في ضوء الخطوات الحالية التي تقوم بها مصر في هذا المجال، خاصة إذا تزامنت تلك المتغيرات مع إصدار بنك الإستثمار العالمي مورجان ستانلي تقريرا حول الإقتصاد المصري، أشار فيه الي أن الإستهلاك لم يعد هو قائد النمو، كما كان الوضع حتى 2015، ولكن مع ارتفاع سعر صرف الجنيه في 2019 وانتهاء برنامج الإصلاح الاقتصادي، تبدأ معدلات الإستهلاك في التعافي.

كل هذا جعل مصر قصة إصلاح إقتصادي عظيمة في عيون الأسواق العالمية، مع الإشارة الي التفاؤل بمستقبل الإقتصاد المصري ، الذي تجاوز مرحلة الإصلاح المالي، ما يتيح مساحة أكبر لدعم وتحسين تنافسية القطاع الخاص، خاصة المنشآت الصغيرة والمتوسطة، ونحن نعتقد أن مصر في طريقها لانطلاقة أكبر.

كما أنه وفقاً لتقرير وزارة التخطيط فإن العمالة غير الرسمية في مصر تشكل نحو 40% من المشتغلين.

و قد سعت الدولة لدمج القطاع غير الرسمي بالقيام بوضع نظام ضريبي مبسط للمشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر، وقانون تنظيم وسائل الدفع غير النقدي، إلى جانب قانون الإجراءات الضريبية الموحدة، فضلاُ عن مبادرة الشمول المالي وتطبيق الفاتورة الضريبية الإلكترونية، مع القيام بوضع حزمة من الحوافز للعمالة غير المنتظمة في قانون التأمينات الجديد إلى جانب إتاحة تمويل بحوالي 200 مليار جنيه للمشروعات الصغيرة والمتوسطة.

هذا يعني أن البداية قد انطلقت نحو تحويل المشروعات الصغيرة و المتوسطة الي محور فاعل في الإقتصاد، إلا أنه يجب أن يتكامل ذلك مع سياسات ضريبية و آليات تراخيص و مراقبة ، تهدف لتنمية هذا القطاع و دمج القطاع غير الرسمي من خلال سياسات نمو احتوائي حقيقية .

و من هذا المنطلق فإن المشهد الإقتصادى المصري الحالى لا يحتمل استمرار ارتفاع أسعار الفائدة لفترة أطول ، فالتضخم لازال مدفوعا بشكل أساسى بالتكلفة ، وليس بارتفاع الطلب على السلع والخدمات ، أو ارتفاع الدخول المتاحة للإنفاق، وبالتالى تبقى قدرة أسعار الفائدة المرتفعة على تحجيم هذا النوع من التضخم محدودة، ولابد من إعادة النظر في أسعار الفائدة.

كما أن ذلك يأتي في ظل تحسين مناخ الإستثمار المستهدف من الحكومة المصرية ، بالإعتماد على تكنولوجيا المعلومات فى تهيئة بيئة عمل محفزة، و خلق منظومة متكاملة من عدة حلول و مزايا ،تهدف إلى الإسراع بتنمية القطاع و تمكينه ، وتسهيل إجراءاته الحكومية، و تشجيعه على الإستثمار على كافة مراحل تطور الصناعات الصغيرة و المتوسطة، بدءا من نشأة فكرة المشروع، مرورا بمرحلة البدء فى المشروع ثم تعظيم فرص نجاحه ، والعمل على تذليل العقبات التى تواجه المشروعات المتعثرة فى قطاع الأعمال ، بالإضافة إلى التشجيع على الدخول فى القطاع الإقتصادى الرسمى.

من الهام وضع خطة عمل لزيادة معدلات التوعية المصرفية خاصة للأفراد ، مع إطلاق حملات توعية مكثفة علي مستوي الجمهورية لزيادة الوعي و التثقيف المالي ، وتوضيح أهمية استخدام البنوك في كافة التعاملات المالية للمواطنين ، و كذا التعريف بنظام المدفوعات الإلكترونية في كافة الخدمات التي تقدم من الدولة لتقليص عملية السداد النقدي تدريجيا.

كل ذلك بجانب تدشين برنامج متكامل لزيادة عدد فروع البنوك و ماكينات الصرف الآلي ، و تفعيل دور مكاتب البريد و فروع البنك الزراعي المصرى في تنفيذ هذه الخطة ، مع تخفيف شروط و إجراءات و رسوم فتح الحسابات المصرفية بالبنوك ، مع ضرورة تطوير البنية التحتية لمنظومة تكنولوجيا المعلومات بالبنوك ،و كذا شبكات الاتصالات ، مع الإستمرار في زيادة أعداد نقاط البيع ، وتنشيط تنفيذ الخدمات المصرفية عبر شبكات الإنترنت و المحمول .

و يستلزم هذا وضع برنامج زمني يعقب هذه المرحلة لبدء تخفيض إستخدام الكاش في الجهات غير الحكومية ، وتشجيع عملية المدفوعات الإلكترونية ، مع ربط كافة خدمات الكروت الإلكترونية بكارت واحد فقط (التموين – المعاشات – صرف المرتبات الحكومية – التامين الصحي ).

ويجب أن تتزامن تلك الخطوات مع ضرورة تفعيل برنامج تقنين الملكيات العقارية و الأنشطة التجارية، من خلال تبسيط إجراءات قيد و شهر كافة العقارات غير المسجلة ، واللجوء لنظام القيد بنظام السجل العيني، وليس بالنظام المستخدم حاليا، وكذا تبسيط إجراءات القيد بالسجل التجاري.

مع أهمية البدء بفاعلية في خطوات ضم الإقتصاد غير الرسمي الي الإقتصاد الرسمي ، بإطلاق القانون الخاص بإدماج القطاع غير الرسمي ، والذي يتضمن تقديم حوافز تمويلية بفائدة مميزة ، الي جانب تسهيلات في إجراءات استخراج التراخيص ، والتنظيم الضريبي لحفز هذا القطاع، الذي يعد المصدر الرئيسي للإقتصاد النقدي بمصر ، علي الإنضمام للمنظومة الإلكترونية الجديدة.

محسن عادل

خبير إقتصادي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى