محمد عبد العال يكتب.. صدمتان دوليتان يواجههما احتياطي مصر من النقد الأجنبي !!
رصيد احتياطي النقد الأجنبي سجل 37,082 مليار دولار بنهاية مارس 2022
أعلن البنك المركزي المصري أن رصيد احتياطي النقد الأجنبي لديه قد بلغ فى نهاية مارس الماضي 37,082 مليار دولار ، مقابل 40,990 مليار دولار بنهاية فبراير السابق عليه ، متراجعا بنحو 3,9 مليار دولار.
فماذا يعني ذلك؟ ولماذا لجأ البنك المركزي إلى الاحتياطيات الدولية فى هذا التوقيت؟
إن هذا التراجع فى رصيد الاحتياطي بالنقد الأجنبي يعني أن البنك المركزى المصري قد لجأ إلى تفعيل الدور الطبيعي لوظيفة هذا الاحتياطي، لكونه صمام الأمان والرصيد المُدخر والمُخصص لتغطية احتياجات الدولة الإستراتيجية وسداد التزاماتها الدولية ، على ألا يتم استخدامه إلا فى حالات الأزمات المالية العالمية والصدمات الدولية ، التي قد تؤثر سلباً على مصادره التقليدية وصافي تدفقاته المعتادة من النقد الأجنبي ، بسبب أحداث وأزمات أو صدمات خارجية غير متوقعة.
وحقيقة الأمر أن العالم كله قد واجه ، وعبر العامين الماضيين ، صدمتين عظيمتين متتاليتين ، الأولى بدأت ” فيروسية ” ، تحولت سريعا إلى أزمة عالمية ذات تداعيات سلبية عميقة اقتصادية ومالية ، أما الصدمة الثانية بدأت ” عسكرية ” ،حينما غزت روسيا جارتها أوكرانيا ، ثم تحولت سريعا إلى أزمة دولية ذات أبعاد جيو سياسية ، وتداعيات اقتصادية سلبية نتيجة استخدام العقوبات الاقتصادية.
الصدمة الأولى تكاتف العالم كله واصطف لمواجهة فيروس كورونا ، وحينما بدأت مظاهر التعافي الاقتصادي ، وبدأ العالم يلتقط أنفاسه ، وإذا به يواجه الصدمة الثانية ، التي توحشت عن الأولى ، وأصبح واضحا تماما كيف أثقلت أعباء الحرب الروسية الأوكرانية كاهل اقتصاديات الدول ، خاصة الدول الناشئة.
فماذا حدث فى العالم وفي مصر؟
ارتفعت الأسعار بسرعة وبمعدلات غير مسبوقة ، خاصة السلع الإستراتيجية والمواد الخام وكل أنواع الطاقة ومشتقاتها ، والأسمدة والسلع الغذائية والأقماح والحبوب.
كان الضرر على مصر صعبا ومتعاظما ومركباً، فمصر تستورد معظم احتياجاتها من القمح والزيوت والنفط، وغالبية السياحة القادمة هى من ذات الدولتين المتحاربتين ، ومع ارتفاع الأسعار يرتفع التضخم ، ويزداد العجز فى الميزان التجاري ، ويصبح هناك صعوبة فى تحقيق التوازن بين أهداف النمو الاقتصادي ومستهدفات التضخم وتحقيق استقرار الأسواق.
فكان على الحكومة المصرية أن تواجه تلك الصدمة والخروج الآمن منها بأقل خسائر ممكنة ، عبر تحقيق عدة أهداف على مدى زمنى معقول ، ومن أهم تلك الأهداف تأمين أرصدة كافية من السلع الإستراتيجية، خاصة القمح والنفط ، مع تحمل فارق تكلفة تلك الأرصدة الإستراتيجية بالأسعار الجديدة المرتفعة ، حفاظا على تحقيق الأمن الغذائي القومي، من حيث الإتاحة وبأسعار معقولة ومستقرة ، وتوفير إحتياجات الدولة من السلع الإستراتيجية وخامات ومدخلات الإنتاج.
وثاني تلك الأهداف الحفاظ على آلية تحرير سعر الصرف ، مع إتاحة مرونة واقعية للتحرك ، هبوطا وصعودا وفقاً لظروف العرض والطلب، حتى لا يهدر احتياطي النقد الأجنبي فى محاولات تثبيت وحماية الجنيه ، وفي ذات الوقت الاستمرار في السياسة النقدية المرنة ، القادرة على إحداث التوازن الأمثل للسياسة النقدية بين (التقييد ) و (التحفيز ) ، وفقا لمتطلبات الأوضاع ، وهو ما يتيح إمكانية الرفع المتتالي لأسعار الفائدة لمواجهة الاغتجاه العالمي لرفع الفائدة ، ولجعل الجنيه أكثر جاذبية بالنسبة للمستثمرين الأجانب ، والمدخرين المصريين مع الإستمرار في منح ميزة نسبية للوعاء الادخاري ذو العائد المتميز للقطاع العائلي ، والاستمرار فى سياسة المبادرات التمويلية وحزم التيسير ، وأخيرا تقوية مظلات الحماية الاجتماعية للفئات المستحقة.
كيف تصرف البنك المركزي المصري؟
الحقيقة أن البنك المركزي المصري لديه سابق الخبرة العميقة فى التعامل مع ضغوط تلك الأزمات ، سواء فى إنجاح تنفيذ برنامج الإصلاح النقدي والاقتصادي ، ثم تجربته المهمة فى مواجهة الصدمة الأولى لجائحة كورونا ، وفى إطار إجراءاته الدفاعية والعلاجية ، لما حدث من ضغط شديد على مراكز النقد الأجنبي المتاحة ، كان من اهم إجراءاته هو اللجوء إلى الاستخدام الجزئي والمرحلة من الاحتياطي بالنقد الأجنبي المحفوظ لديه.
وهذه ليست المرة الأولى التي يلجأ فيها البنك المركزي لهذا الإجراء ، فقد تم استخدامه عند مواجهة صدمة كورونا العالمية ، حيث كان رصيد الاحتياطي النقدي قد سجل أعلى مستوى تاريخى له 45,5 مليار دولار في شهر فبراير 2020 ، ولكن واعتباراً من مارس 2020 ، وفي مواجهة صدمة كورونا ، وبغرض تمويل احتياجات خطط التحفيز ، كانت بداية الاستخدام الجزئي المرحلي المتدرج ، وفقا لمتطلبات الأزمة ، ومن ثم بدأ الاحتياطي في التراجع ، وصولاً إلى مستوى 36 مليار دولار في مايو 2020 ، وهو أدنى مستوى وصل له فى تلك الحقبة.
واعتباراً من يونيو 2020 بدأ الاحتياطي بالنقد الأجنبي للعودة فى النمو الإيجابي المتدرج ، على مدى الإثنين والعشرين شهرا التالية ، وصولا إلى أن سجل نحو 41 مليار دولار فى شهر فبراير الماضي.
وما لبث العالم أن يلتقط أنفاسه من صدمة كورونا وإذا به يواجه الصدمة الثانية وهى أشد وأصعب ، وبالطبع كانت التداعيات السلبية من جراء تلك الصدمة الأخيرة قاسية على كل دول العالم ، وبالأخص الدول الناشئة ، ومنها مصر ، التي تكبدت فى فترة قصيرة جدا عشرات المليارات من الدولارات لمقابلة فروق أسعار ضخمة، نتيجة الموجة التضخمية العالمية، وهى بصدد تأمين وشراء أرصدة كافية من السلع الاستراتيجية ، ومن ناحية أخرى تعويض ما فقدته من إيرادات السياحة وتخارج المستثمرين الأجانب فى أوراق الدين العام ، تحت ضغط الأوضاع الجيوسياسية القائمة ورفع الفيدرالي الأمريكي لأسعار الفائدة على الدولار ، كل ذلك دفع المركزي المصري للاستخدام الجزئي من الاحتياطي لاستكمال مقابلة الإلتزامات الدولية ، وسداد الاحتياجات الإستيرادية الضخمة ، وبلغ ما استخدمه من الاحتياطي نحو 3,9 مليار دولار ، ليكون الرصيد القائم حاليا نحو 37,1 مليار دولا ، يكفي لتغطية احتياجات مصر الطارئة لمدة خمسة شهور ، وهى فترة جيدة مقياسا بالمعدل العالمي للتغطية الآمنة وهى ثلاثة شهور.
بالطبع كان للقرارات العملية العلاجية والوقائية التي اتخذها البنك المركزي في نهاية الشهر الماضي ، من رفع الفائدة وتعديل سعر صرف الجنيه ، دور مهم في مسعاه لتوفير المزيد من تدفقات النقد الأجنبي ، كما كان للحضور الواضح للدعم الخليجي، سواء في شكل استثمارات مباشرة أو ودائع زمنية ، دور مهم ورسائل طمأنة لدعم السيولة بالنقد الأجنبي.
وفي سياق آخر قررت الحكومة التوجه لصندوق النقد الدولي للتباحث للحصول على قرض جديد ، يدعم قدرة مصر على الاستمرار في النمو ومواجهة الظروف الصعبة العالمية ، والحفاظ على مكتسبات برنامج الإصلاح الاقتصادي.
محمد عبد العال
خبير مصرفي