دكتور زكريا صلاح يكتب عن .. تعقيم التضخم
الأمر يتطلب الآن تضافر الجهود ليس من خلال صانعي السياسات النقدية والتجارية والمالية فقط ولكن من خلال الأفراد أنفسهم أيضاً
ربما كلمة تعقيم لا تتناسب مع التضخم ، لأن الدارج مع خبراء الاقتصاد ومتخذي القرارات الخاصة بالسياسة النقدية ، بصفة أساسية البنوك المركزية ، هو محاربة التضخم والعمل على استهدافه وتخفيضه لمستويات دون الرقمين في حالة بلوغ معدلات التضخم مستويات مرتفعة ، مثل حالة تركيا حوالى 70% ، فيما بلغ حوالى 15% في إبريل 2022 مقابل 4.4% لنفس الفترة من العام السابق في مصر ، ثم إلى المحافظة عليه عند مستويات أدنى ، خاصة أنه في أمريكا على سبيل المثال بلغ معدل التضخم 8.5% في مارس 2022، كما بلغ في منطقة اليورو 5.9% في فبرار 2022 ، وهى أرقام لم تشهدها هذه الدول من عشرات السنين ، ولكن هناك حاجة مستمرة لتخفيض التضخم لتحقيق هدف الحفاظ على القوى الشرائية واستقرار الأسعار وتحقيق معدلات فائدة حقيقية موجبة.
إن التضخم يعنى ارتفاع الأسعار ويستخدم مؤشر أسعار المستهلكين Consumer Price Index لقياس التضخم ، من خلال متابعة التغير في أسعار سلة من السلع والخدمات من خلال متوسط مرجح لأسعارها، والوضع الحالي ينذر بالتصاعد المستمر للأسعار ، وبالتبعية سترتفع معدلات التضخم ، الأمر الذي أصبحت معه الرغبة الآن تتطلب تعقيم التضخم ، من خلال السيطرة ووقف ارتفاع الأسعار ، خاصة مع صعوبة التخفيض في الوقت الحالي أو في الأجل القصير ، نتيجة لاستمرار تبعات انتشار الفيروس والحرب الروسية الأوكرانية ، بالإضافة إلى إقبال الدول خلال العامين الماضيين على زيادة المعروض النقدي بصورة كبيرة جداً للتعامل مع الظروف التي أوجدتها عمليات الإغلاق.
وأعتقد وجود مجال لانتشار أنواع أخرى للفيروسات أو تحورها ، وعادة سيكون التأثير الأكبر لذلك هو في صورة التضخم المستورد ، نتيجة لتوقف سلاسل الإمداد أو انخفاض المعروض من السلع والخدمات نتيجة ظروف توقف الإنتاج إما بسبب الحرب أو تبعات إنتشار فيروس كورونا خلال الفترة الماضية.
والأمر الأصعب الذى تعانى منه إقتصاديات الدول الآن هو الركود التضخمي أي حالة من التباطؤ الاقتصادي وفترات ركود ، في ظل ارتفاع في الأسعار بصورة مستمرة ، ويعزز من الركود إلتجاء واستمرار البنوك المركزية في رفع سعر العائد وما ينتج عنه من ارتفاع في تكلفة التمويل محاولة منها لمحاربة التضخم.
إن موجة التضخم ستكون عاتية خلال الفترة القادمة وستسبب أزمات للدول والأفراد على حد سواء، وستنتقل الأزمات من دولة إلى أخرى ، فلم يعد أحد بمعزل عن الآخر في ظل العولمة وانفتاح الأسواق وتأثرها ببعضها البعض ، هذا بخلاف أن الأسواق على مستوى العالم تعمل ليل نهار فيغلق سوق ويبدأ سوق أخر في العمل نتيجة لاختلاف فروق التوقيت ، وبالتالي فالحركة مستمرة وتداعيات الأزمات تنتقل الآن بسرعة الصاروخ ، حيث لا يوجد إقتصاديات مغلقة في عالمنا الآن.
وتحاول الحكومات دائما الحفاظ والسيطرة على معدلات تضخم مناسبة ، يمكن معها تحقيق معدلات النمو الاقتصادي المستهدفة دون محاولة تخفيض القوى الشرائية.
ومن السياسات التي تتبعها البنوك المركزية للسيطرة على التضخم هو اتباع سياسات نقدية انكماشية ، من خلال رفع أسعار العائد وتخفيض المعروض النقدى، وكذلك محاولة السيطرة على الأسعار لبعض السلع ، من خلال فرض التسعيرة الجبرية من قبل الحكومة ، إلا أن أضرارها كثيرة جداً من الناحية الاقتصادية والاجتماعية.
إن الأمر يتطلب الآن تضافر الجهود ، ليس من خلال صانعي السياسات النقدية والتجارية والمالية فقط ، ولكن من خلال الأفراد أنفسهم أيضاً بتعقيم التضخم ، بعدم زيادة الإستهلاك باتباع مفهوم الرشادة الاقتصادية وتعلم وتطبيق فن الإستغناء ، أو تأجيل عمليات الشراء وتوجيه الدخل إلى الضروريات والحفاظ على ما يتم شراؤه منها ، وتحقيق أقصى إستفادة منها مثل طهى الطعام بمقادير والاحتفاظ بالفوائض منه لوجبة أخرى دون التبذير ، بل وتخطيط عمليات الإنفاق للأشهر القادمة.
وعلى صانعى السياسات تعقيم التضخم باتخاذ ما يلزم من إجراءات ، أخذاً في الإعتبار أثر قراراتهم على الأفراد والمجتمع، ومحاولة حساب تكلفة إتخاذ القرارات بصورة دقيقة ، سواء على مستوى الدولة أو على مستوى الفرد ، ومراقبة الأسواق العالمية ، والعمل دائما بصورة إستباقية مع توعية الأفراد بتداعيات التضخم ، والإجراءات المتخذة ، وأسباب أتخاذها، وأثارها ، ومراعاة مستويات الدخول المختلفة ، خاصة وأن حزم الحماية الاجتماعية لا تكفى لمواجهة متطلبات المعيشة في كل الحالات.
دكتور زكريا صلاح الجندى
خبير مصرفي