محمد عبد العال يكتب.. أكسرها.. واربطها!!
تحول كثير من أصحاب الأعمال والحرف والوحدات الإنتاجية جزئياً أو كلياً إلى "عاطلين بالودائع"
أكسر الشهادة القديمة واربطها بالجديدة .. أضحت تلك العبارة أشهر من نار على علم ، بل أصبحت “ترند”، بلغة مواقع التواصل الاجتماعي ، تلك العبارة التي أصبحت تعكس ثقافة قطاعات كبيرة من فئات المجتمع المصري ، مدخرين ومستثمرين ، حيث تحول كثير من أصحاب الأعمال والحرف والوحدات الإنتاجية جزئياً أو كلياً إلى “عاطلين بالودائع” ، بسبب تلك الشهادات ذات الأسعار الخاصة.
ولم لا ؟ فهل يوجد في الداخل أو الخارج استثمار يحقق صافي عائد نحو 25% خالص الضرائب وخالي من المخاطر مثل الاستثمار في تلك الشهادات؟!
وهكذا تُكسر القديمة وتربط الجديدة ، وبنوك الدولة تدفع الفرق ، وتتحمل الكلفة الباهظة ، والبنوك الخاصة تعاني من خلخلة هيكل ودائعها لهجرة مودعيها إلى الشهادات الجديدة ، فتكون مجبرة على رفع أسعارها ، والمحصلة في النهاية تكون حلقة مفرغة من ارتفاعات أسعار السلع والخدمات نتيجة ارتفاع كلفة التمويل وتقلص الإنتاج ، أي يرتفع التضخم ، فنعود ونرفع الفائدة أملا في ترويضه ، ولكن التضخم المصري يبتسم لنا ابتسامة ساخرة ، لأنه محصن الآن ضد سلاح رفع الفائدة ، وتَحَور صاعدا متأثرا بعوامل تغيرات سعر الصرف أولا ، وارتفاع كل ماهو مستورد ثانياً ، بجانب بعض الأمور المؤقتة المحلية الأخرى مثل رفع أسعار البنزين والأجور وموسمية شهر رمضان.
ولأننا نستورد أكبر بكثير مما نصدر ، فإن رفع الفائدة يزيد من تفاقم عجز الميزان التجاري ، وبالطبع زيادة كلفة تمويل عجز الموازنة ، وكلها مؤشرات سلبية ، تضغط على سعر الصرف ، ولأن هناك علاقة طردية بين التضخم وسعر الصرف فأي تخفيض للجنيه يعني ارتفاع معدل التضخم خاصة مع ثبات العوامل الأخرى .
لقد أسقطنا أنفسنا في دوامة ما يسمى “الشهادات” ، والتي كانت فى الأصل أداة من أدوات السياسة النقدية في مواجهة التضخم والمساعدة في سحب فائض السيولة ، ثم تحولت الآن في يقين المتعاملين إلى حق مكتسب للقطاع العائلي ، تَعود أن ينظم نمط إنفاقه واستهلاكه على أساسه ، وأخذ يترقب مع كل استحقاق أن ينال عائدا أكبر بغض النظر عن تآكل دخله الحقيقي نتيجة ارتفاع التضخم .
ليس صحيحا أن رفع الفائدة يجعل العملة الوطنية أكثر جاذبية للإستثمار الأجنبي غير المباشر في أوراق الدين العام ، ويساعد على مقاومة ظاهرة الدولرة ، هذا ممكن في الظروف الاقتصادية العالمية العادية أما في ظل حالة القلق والاضطراب التي تسود العالم حالياً ، فقد تدفع المستثمرين إلى الأصول ذات الملاذات الآمنة الأخرى مهما كانت أسعار الفائدة مرتفعة.
إنه أمر طبيعي أن ترتفع تكلفة التمويل كرد فعل لارتفاع الفائدة ، فترتفع أسعار المنتجات المحلية ، و يرتفع معدل التضخم ، كما ترتفع تكلفة سلع التصدير ، فتقل قدرتنا التنافسية لتصدير السلع غير البترولية فيزداد خلل الميزان التجاري .
أعلم أنني قد أكون أسير عكس الاتجاه العالمي السائد ، وعكس توجهات صندوق النقد الدولي ، ولكني مع كل الاحترام والتقدير فإن ظروفنا ومشاكلنا في مصر مختلفة عن ظروف ومشاكل دول أخرى تحارب التضخم برفع الفائدة ، إن التركيز على سياسة رفع الفائدة بأكثر مما هى عليه الآن ، قد لا يجدي نفعاً على مستوى الاقتصاد الكلي في شقيه النقدي والمالي.
إن الاستمرار فيما أخذت به لجنة السياسة النقدية الموقرة في اجتماعها السابق بتثبيت الفائدة ، هو في تصوري أفضل الحلول.
وأقول للغاضبين المحتملين أن الرفع وعمل ودائع جديدة بأسعار مرتفعة ، صافي إيرادها حتما سيكون سلبيا ، هو أمر غير منطقي ولن يحقق مصالح الوطن ولا المواطن على المدى القصير والمتوسط.
ولذلك أتمنى أن يتم تثبيت الفائدة لفترة أخرى ، وأن تعود الشهادات التي بدأت فى الاستحقاق إلى الأوعية الادخارية المتنوعة القائمة حاليا في كل البنوك المنتشرة على أرض مصر ، وكلها بأسعار معقولة ومتميزة ، ولا يوجد مبرر منطقي لإصدار شهادات ادخارية جديدة ، ومع الانخفاض المتدرج للتضخم ، سنصل إلى سعر عائد عادل وإيجابي ويضمن دخلا حقيقيا للمدخر والمستثمر.
محمد عبد العال
خبير مصرفي