محمد العريان يكتب: الأسواق المالية أصبحت أكثر اعتماداً على البنوك المركزية
سوف يسجل التاريخ أن مؤشر «ستاندرد آند بورز 500» صعد لمستوى قياسى جديد الأسبوع الماضى فيما تعد واحدة من أطول فترات صعود الأسهم الأمريكية، ولكن ما لن يظهره التاريخ هو أن الأسواق المالية أصبحت أكثر اعتماداً على البنوك المركزية التى تتقوض قدرتها على المحافظة على الرخاء الاقتصادى والاستقرار للمستثمرين بسبب مجموعة متزايدة وأكثر تعقيداً من العوامل الاقتصادية والجيوسياسية والسياسة، وكل ذلك يجعل البنوك المركزية أكثر عرضة للانتقادات السياسية والتدخلات فى استقلاليتها.
ووصل مؤشر «ستاندرد آند بورز 500» إلى مستوى قياسى جديد يوم الخميس الماضى على خلفية الإشارات بمحفزات سيولة إضافية من البنوك المركزية، ثم تراجع بشكل طفيف يوم الجمعة، ولم يكن المستثمرين فى الأسهم الوحيدون الذين تمتعوا بأسبوعاً جيداً، فحملة أوراق الدخل الثابت كذلك استفادوا من تراجع العائد على السندات الحكومية وكذلك ضيق الفوارق مع عائدات الأسواق الناشئة سواء على الديون ذات الدرجة الاستثمارية أو الخطرة مرتفعة العائد.
وفى الوقت نفسه، ارتفع سعر الذهب لأعلى مستوى فى 5 سنوات، وعوض البترول خسائره الشهرية وصعد بنسبة %3 يوم الجمعة، وأنهت البيتكوين تعاملات الأسبوع فوق المستوى السعرى المهم نفسياً عند 10 آلاف دولار، ما يسلط الضوء على الارتفاع المتزامن غير المعتاد لأسعار الأصول.
وباستثناء البترول، الذى ارتفع استجابة للتوترات فى الشرق الأوسط، فإن عاملاً واحداً كان مسئولاً عن الارتفاعات الأخرى فى فئات الأصول مرتفعة ومنخفضة المخاطر، حيث أشار الفيدرالى إلى استعداده وقدرته على القيام بالمزيد من المحفزات النقدية، وهو ما أضاف على التصريحات السابقة من البنك المركزى اليابانى، والبنك المركزى الأوروبى، وبنك الشعب الصينى، واندفعت الأسواق مجدداً لتقدير مسار أبطأ لأسعار الفائدة حول العالم المتقدم، وازداد الحديث فى الأسواق بشأن احتمالية انتهاج سياسات فضفاضة أكثر فى ميزانيات البنوك المركزية.
وبالنظر إلى توزيع الأصول المربح فى السنوات الأخيرة والذى يعتمد على السيولة الوفيرة والمتوقعة من البنوك المركزية، فإن إشارات البنوك المركزية وحدها كانت كافية لتجاهل ما كان عادة ليعتبر مصادر قلق على 4 جبهات.
الأولى، التوترات الجيوسياسية: أضافت الأنباء بأن الرئيس الأمريكى، دونالد ترامب، ألغى فى اللحظة الأخيرة هجوماً عسكرياً ضد إيران على المخاوف بشأن تزايد التوترات فى الشرق الأوسط، وكان ذلك رداً على إسقاط طهران طائرة أمريكية بدون طيار.
ولا يظهر أى طرف أى نية على حل التوترات، وكانت إيران تزيد من حدة خطاباتها على مدار نهاية الأسبوع، وأعلنت أمريكا أنها سوف تشدد العقوبات على إيران.
والجبهة الثانية، عدم اليقين التجارى: تزيد هذه التوترات الجيوسياسية لعبة الشطرنج السياسية المرتبطة بالتزاع التجارى بين الصين والولايات المتحدة، وتبددت آمال الأسواق بأى إنجاز تجارى أثناء لقاءات مجموعة العشرين فى اليابان الأسبوع الماضة قبيل المحادثات المباشرة بين ترامب ونظيره الصينة بعدما أدرجت أمريكا 5 شركات صينية أخرى فة القائمة السوداء.
والثالثة، استمرار الضعف الاقتصادى: يأتى كل ذلك فى سياق من البيانات التى تظهر ضعفاً اقتصادياً فى العالم المتقدم، مثل بيانات المصانع الضعيفة فى أمريكا، والتى عززت المخاوف بشأن نشاط التصنيع فى أوروبا واليابان وزادت مخاطر الانكماش حول العالم.
أما الجبهة الأخيرة، عدم التناسق السياسى المحتمل: يضاعف كل ما سبق مخاطر الخليط السياسى الحالى غير المتوازن عبر العالم المتقدم.
ويعد شعور البنوك المركزية بالاضطرار إلى التدخل بمزيد من المخفزات تذكيراً فى الواقع بأن صناع السياسة الآخرون، والذين يمتلكون أدوات تستطيع إزالة العوائق أمام الاستقرار المالى طويل الأجل والنمو المرتفع والشمولى، لايزالون يقفون موقف المتفرج، ولا يريد البنك المركزى اليابانى والمركزى الأوروبى أن يروا عملاتهم ترتفع فى وقت الهشاشة الاقتصادية، وبالتالى فإن “التسابق إلى القاع” فيما يتعلق بالمحفزات النقدية – بكل مخاطره وتكاليفه على المدى المتوسط – لا يعد استجابة سياسية منسقة، ولكن يبدو كشر لا بد منه.
ونظراً لاستجابة البنوك المركزية لرغبات المستثمرين، يحق لهم الاحتفال الأسبوع الماضى بإشارات البنوك المركزية الكبرى إلى استعدادهم وقدرتهم على تقديم سيولة استثنائية، ولكن من الخطأ تجاهل الأحوال والدوافع الكامنة، فراكب الأمواج الماهر يمكنه ركوب الموجة طالما أنها ثابتة ولكنه يعرف متى ينزل من عليها قبل أن تنكسر على الشاطئ.
محمد العريان
المستشار الاقتصادى لمجموعة أليانز ورئيس كلية كوينز بجامعة كامبريدج