محمد عبد العال يكتب : حرب غزة تُلهب دولار السوق الأسود!!
أثق أن هذا السعر غير المبرر وغير العادل سيكون ضرره أكثر من نفعه ولذلك أقول إحذروا
فوجيء المتعاملون في سوق صرف الجنيه المصري ، الموازي ، مطلع هذا الأسبوع بارتفاع غير منطقي ومبالغ فيه مسجلاً سعراً تاريخيا غير مسبوق.
إن حدوث تقلبات سعرية لأية عملة صعوداً أو هبوطاً هو أمر طبيعي ومحتمل ، ولكن حدوث قفزات سعرية متكررة وفي نطاق زمني ضيق وفى اتجاه واحد لصالح الدولار هو أمر قد يوحي لعقلاء المراقبين أنه لا يمكن أن يكون رد فعل لأوضاع اقتصادية ، وإنما يعود إلى عوامل أخرى مستجدة يتعين أن ندرك الأسباب الحقيقية وراءها.
لو نظرنا للخلف لفترة تاريخية ماضية مناسبة سنلاحظ أن سعر صرف الجنيه المصري قد مر بـ 6 تخفيضات رئيسية ، بدأت الأولى مع عام 1991 ، حيث تم إلغاء نظام سعر الصرف المتعدد وخُفض الجنيه على مراحل ، من 1.6 جنيه لكل دولار إلى 3.10 جنيه ، ثم إلى 4.5 جنيه لكل دولار ، وفى عام 2003 تم اتباع نظام التعويم المدار وانخفض الجنيه إلى 5.9 جنيه، ثم إلى 8 جنيهات لكل دولار ، وفى نوفمبر 2016 تم إعلان التحرير الكامل ، وانخفض الجنيه إلى 19 جنيها لكل دولار ، ولكنه عاود الهبوط واستقر حول الـ 16 جنيها لكل دولار ، وفى مارس 2022 تم خفض الجنيه إلى 18 جنيها لكل دولار ، وفي أكتوبر 2022 تم الخفض من 22 إلى 24 جنيها لكل دولار ، وأخيرا في يناير 2023 تم تخفيضه رسمياً إلى 30.90 جنيه لكل دولار ، ومازال حتى الآن عند هذا المستوى السعري الرسمي.
في كل مرحلة من المراحل الست السابقة كنا نلاحظ أنه يتزامن ويرافق السعر السائد فى السوق الرسمية “الجهاز المصرفىي” سوقا موازيا ، تعلو الأسعار المتداولة فيه عن الأسعار الرسمية بفارق أو هامش معقول وغير مبالغ فيه.
وحتى أيام قليلة ماضية كان الفرق يبين السعرين لا يزيد عن 7 أو 8 جنيهات علي أقصى تقدير ، ولكن ما فوجئنا به منذ مطلع هذا الأسبوع أن فارق السعر يتسع بشكل غير منطقي وغير مبرر ، حدث ذلك رغم أن كل المؤشرات المحلية والاقتصادية لم تتغير أو تتطور سلبياً ، بما يتطلب تبرير تلك القفزه في سعر الدولار.
فإذا راجعنا سريعا أهم المؤشرات والدلالات الاقتصادية والمالية والنقدية المصاحبة للفترة الأخيرة ، سوف نلاحظ أن الأسواق قد تجاوزت تأثير تخفيض التصنيف الائتماني السيادي من ناحية ، وأيضاً ضغوط صندوق النقد الدولي من ناحية أخرى ، كما تم إلغاء القرارات المرتبطة بحدود استخدامات البطاقات الائتمانية في الخارج ، كما أن مصر لم تتخلف أبدأ حتى تاريخه عن سداد أية أقساط أو فوائد من ديونها ، وسددت فوائدا وأقساطا بقيمة 18.7 مليار دولار خلال الفترة من يوليو 2022 وحتى مارس 2023 ، أي خلال التسعة أشهر الأخيرة ، كما سجل الدين الخارجي 164.7 مليار دولار بنهاية يونيو 2023 ، بنسبة 38.5% من الناتج المحلي الإجمالي ، وهي نسبة تعتبر في الحدود الآمنة وفقاً للمعاير الدولية.
وقدرت مصر الاحتياجات التمويلية الخارجية بقيمة 4 مليارات دولار حتى نهاية العام المالي الحالي ، وهناك متسع لحدود خارجية غير مستغلة يمكن لمصر أن تحصل منها على 5 مليارات دولار سنوياً بشروط ميسرة من البنوك التنموية متعددة الأطراف.
على الجانب الآخر نجحت مصر في تنويع الأسواق والعودة مجدداً للأسواق اليابانية ، ونفذت الإصدار الدولي الثاني من سندات “الساموراي” بقيمة تعادل نصف مليار دولار بأسعار مميزة ، كما نجحت في إصدار سندات دولية مستدامة بسوق المال الصينية “الباندا” بما يعادل نصف مليار دولار ، كما أن مصر تدفق لها استثمار أجنبي مباشر بلغ خلال العام المالي الماضي 10 مليارات دولار ، ومتوقع أن يرتفع إلى 12 مليار دولار في العام المالي الحالي ، ولا ننسى كيف تجاوز الاحتياطي بالنقد الأجنبي المحتفظ به لدى البنك المركزي 35 مليار دولار ، بزيادة شهرية متصلة طوال الأربعة عشر شهرا الأخيرة ، كما تم تحقيق خطوات جيدة في مراحل تنفيذ برنامج الطروحات ، وتم الإنتهاء من بيع أصول بنحو 2 مليار دولار ، ومن المتوقع الحصول على ما قيمته 6 مليارات دولار خلال العام المالي القادم.
صحيح في المقابل لدينا وضع اقتصادي صعب ، نتيجة الصدمات التي مررنا بها وتركت تداعياتها السلبية على عجز ميزان المدفوعات والميزان التجاري وعجز الموازنة وعدم مرونة سعر الصرف وقصور في النقد الأجنبى وزيادة في أعباء خدمة الدين الخارجي … إلخ ، لكن كل تلك العوامل ، الإيجابية منها أو السلبية ، هى موجودة بحلوها ومرها وتتفاعل معها الأسواق منذ شهور ، ولم تتغير أو تتطور بما يستدعي تفاقم سعر الصرف الموازي إلى هذا الحد.
إذن أين الحقيقة؟ وما هو سبب ماحدث؟!
حقيقة الأمر أنه بعد مرور أربعين يوما على نشوب الصراع في فلسطين ، ومع استمراره ، تولدت تحديات ومخاوف جديدة ، ليس فقط على مصر وإنما على كل دول الجوار ، مصر والأردن ولبنان ، بل وبعض دول الشرق الأوسط ، وبالطبع مصر في بؤرة تداعيات ومخاطر تلك الحرب ، حيث تنعكس آثارها السلبية ، بشكل مباشر وغير مباشر ، على كل القطاعات والأنشطة الاقتصادية ، بما يهدد بتداعيات كبيرة قد تفوق تداعيات صدمتي كورونا والحرب الروسية الأوكرانية ، وذلك حال توسع وتمدد نطاق تلك الحرب ، خاصة على قطاع السياحة ، والتي قدرت وكالة ستاندرد آند بورز حجم خسائر السياحة للدول العربية الثلاث بنحو 10% إلى 70% من العائدات المسجلة العام الماضي ، وقدرت الوكالة حجم الخسائر المتوقعة لكل من مصر ولبنان وسوريا بنحو 16 مليار دولار ، وهو الأمر الذي يهدد مصر بشكل مباشر وغير مباشر ، لأن نقص إيرادات السياحة من النقد الأجنبي سوف يؤثر سلباً علي مركز أصولها بالنقد الأجنبي.
هذا المثال يؤكد أنه حينما تتواجد صراعات أو نزاعات عسكرية تتولد في ذات الوقت مخاطر جيوسياسية قد ترفع من مخاطر السوق وتهدد بهروب الاستثمارات وتعطل الإمدادات ، خاصة سلع الطاقة.
هذا هو السبب المباشر والحقيقي للارتفاع المفاجئ ، وغير المبرر ، في أسعار الدولار مطلع هذا الأسبوع وحتى الآن.
فليس فقط الأسباب الاقتصادية أو فجوة النقد الأجنبي هي السبب ، ولكن هناك أيضا العوامل السياسية والصراعات العسكرية ، وهناك أمثلة متعددة من التاريخ لأزمات وصراعات عسكرية أدت إلى أزمات مالية ، وتدهور في قيم العملات ، منها على سبيل المثال وليس الحصر ، الحرب الأهلية في سوريا عام 2011 ، الوضع الحالي في السودان ، والغزو الأمريكي للعراق 2003 ، وفي كل تلك الحالات تأثرت عملات تلك الدول سلبا بشكل لافت ، حتى ولو كان مؤقتا.
وهذا ما حدث بالضبط مع تفجر حرب غزة ، التي تكاتفت حولها وبسببها كل أنواع المخاطر ، وأجبرت المتعاملين في أسواق النقد والمال إلى تحويل كل أو جزء من استثماراتهم والهجرة بها إلى الأصول ذات الملاذ الآمن ، مثل الذهب والدولار.
وفي حالة الدولار ولعدم كفاية إتاحته لدى المصادر الرسمية يتوجه الراغبون في الشراء إلى السوق الموازي ، الشهير بالسوق الأسود ، وهذا السوق هو فى الأصل سوق عشوائي غير كفء ، يعيش ويتعايش ويزدهر وقت الأزمات ، حيث ينشط أباطرة الدولرة وتجار العملة فى سوق يغلب عليه عدم الشفافية واحتكار القلة ، فيفرضون أسعاراً ، حتى ولو كان مبالغ فيها ، إلا أنها أسعار لسلعة نادرة ذات طلب غير مرن ، وتكون النتيجة ارتفاع سعر الدولار من أجل الخوف والمضاربة والدولرة.
أثق أن هذا السعر ، غير المبرر وغير العادل ، سيكون ضرره أكثر من نفعه ، ولذلك أقول إحذروا ، ففور إعلان وقف إطلاق النار سيهدأ السوق وسيتراجع الدولار وسيخسر مشتروه ، وسيبقى السوق الأسود إلى حين متربصا لأزمة أخرى.
محمد عبد العال خبير مصرفي