تبدد جاذبية الحيل المالية
كانت المسألة مسألة وقت قبل أن تطلق “آبل” كارت ائتمان، فأول شركة فى العالم تصل قيمتها السوقية تريليون دولار لديها نقدية أكثر وانتشار عالمى أوسع من معظم البنوك، فلماذا لا تتصرف كبنك؟ وحظيت هذه الخطوة، بالتعاون مع بنك “جولدمان ساكس”، بتأييد منذ وقت طويل من المساهمين فى الشركة.
وأخبرنى، كارل إيكان، الذى باع أسهم “آبل” منذ سنوات قليلة بسبب مخاوف من مبيعات الشركة فى الصين، إن “آبل” كان يجب أن تصبح بنكاً فى 2013، ولكن هذا مثالاً عن اتجاه سوقى معروف بـ”الأمولة”.
و”الأمولة” مطلح غريب يستخدمه الأكاديميون لوصف زيادة السلوك المالى والموجه مالياً عبر الاقتصاد، وهذا المصطلح العام يغطى كل شىء بدءاً من الانتقادات بأن الشركات تعطى أولوية للقيمة المقدمة للمساهمين إلى الإدعاءات بأن المدراء التنفيذيين يتلاعبون بالميزانيات لتعزيز النتائج قصيرة الأجل، كما أنه يشمل الشركات التى تركز على التمويل بدلاً من أعمالهم الأساسية وأيضاً الشركات التى تزيد من حملها لسندات الشركات.
و”آبل” ليست الوحيدة التى تحاول التصرف كبنك، فقد أظهرت الأبحاث الأكاديمية أن حصة الإيرادات القادمة من النشاطات المالية مقارنة بالنشاطات غير المالية فى الشركات الأمريكية بدأت ترتفع فى السبعينيات، ثم قفزت بحدة فى الثمانينيات وما بعدها، وهو ما يعكس صعود دور التمويل فى الاقتصاد نفسه.
وكانت “الأمولة” محركاً رئيسياً للنمو العالمى على مدار عقود عدة، ولكن أعتقد أننا وصلنا الآن إلى ما أدعوه “ذروة وول ستريت”، أو ذروة هذا الاتجاه، وسوف تشهد الشركات التى تختار التركيز على الأسواق بدلاً من الاقتصاد الحقيقى تراجعاً فى العائدات.
والدليل على ذلك حولنا فى كل مكان، وانظروا إلى “كرافت هاينز” التى توضح كيف أن الاستراتيجيات القائمة على النتائج المالية قصيرة الأجل يمكن أن يكون لها آثار سلبية مرتدة.
وتعد مجموعة الأغذية المعلبة مملوكة جزئياً ومدارة من قبل شركة الاستثمار المباشر البرازيلية “ثرى جى كابيتال”، التى صنعت اسمها من خلال الخفض الحاد للتكاليف والموازنات الصفرية التى تركز على هوامش الأرباح بدلاً من زيادة المبيعات، وتم اتهام شركة الاستثمار المباشر بالتخلى عن خطط الاستثمار طويل الأجل وتوظيف حيل مالية قصيرة الأجل مثل الدفع المتأخر للموردين من أجل تحسين التدفقات النقدية، وفقدت “كرافت هاينز” أكثر من نصف قيمة أسهمها منذ إنشائها خلال عملية الدمج فى 2015.
وهناك أيضاً قطاع البترول الصخرى الأمريكى، فقد اصطف المستثمرون النشطون الذين يطلق عليهم منتقدوهم البرابرة على الأبواب بحثاً عن شركات ذات ميزانيات متضخمة تحتاج للتشذيب، وكان هناك أهداف عديدة بفضل التوسع المفرط من قبل المستثمرين الباحثين عن عائدات أعلى.
وتضاعف حجم سوق سندات شركات الطاقة ثلاثة أضعاف فى العقد الماضى، ولكن معظم الأموال ذهبت لرواتب المدراء التنفيذيين ولزيادة الإنتاج إلى حد التخمة، والآن تعد الشركات المحملة بالديون جاهزة للدمج الإجبارى من قبل شركات الاستثمار المباشر وغيرهم من المستثمرين.
ويمكنك إيجاد عشرات الأمثلة الأخرى عن شركات تعثرت بعدما قامت بصفقات شيطانية لإرضاء “وول ستريت”، ويظهر هذا الاتجاه أيضاً فى انتشار عمليات إعادة شراء الأسهم التى تزيد مضاعف الربحية من خلال تقليص عدد الأسهم، وقد يجادل الملياردير، وارن بافيت، بأن إعادة شراء الأسهم استخدام مرحب به للنقدية الفائضة، ولكن أعتقد أن أفضل وقت للقيام بهم هو فى بداية الدورة الائتمانية وليس فى آخرها، وهو على ما يبدو ما يحدث الآن، وتعيد معظم الشركات شراء الأسهم ليس ثقة فى مستقبلها وإنما كطريقة لتعزيز أسعار الأسهم وهى خطوة “أمولة كلاسيكية”.
وقد يعزز قرار الفيدرالى فى يناير بوقف المزيد من الرفع فى أسعار الفائدة مؤقتاً عمليات إعادة شراء الأسهم فترة، وذلك لأن أسعار الفائدة المنخفضة تجعل اقتراض الأموال لتمويل هذه العمليات رخيصاً، ولكن حقيقة أن الفيدرالى أجبر على تغيير مساره بسبب التقلبات فى الأسواق تعد علامة أخرى على “الأمولة الكثيفة”، وأصبحت الأموال السهلة بمثابة “مورفين” لا يبدو أن الشركات والمستثمرين قادرون على العمل من دونه.
وبالطبع، تعد الديون هى شريان التمويل، ولكنها أيضاً أكبر مؤشر للأزمات المستقبلية، وحذرت منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية، الشهر الماضى، من الكميات القياسية من الديون بسوق سندات الشركات فى ظل أسعار الفائدة المنخفضة تاريخياً، وأكثر من نصف السندات ذات الدرجة الاستثمارية التى أصدرت العام الماضى كانت من أدنى جودة ممكنة.
ويضاعف ذلك تأثيرات التباطؤ الاقتصادى الذى يشعر الكثيرون أنه وشيك، وقالت المنظمة إن حجم سندات الشركات التى من المتوقع أن تتعثر فى حالة التباطؤ الاقتصادى قد تكون أكبر بكثير من تلك المشهودة فى الأزمة المالية العالمية.
وبالفعل تشهد القطاعات عالية المديونية مثل الطاقة مستويات أعلى من التعثر، وظهر اتجاه “الأمولة” منذ خمسة عقود حتى الآن، ولكن مثله مثل أى شىء آخر فى السوق اليوم، فهو يبدو مستعداً للتصحيح.
بقلم: رنا فوروهار
كاتبة مقالات رأى ومختصة فى شئون الاقتصاد العالمى
المصدر: صحفية “فاينانشيال تايمز”