محمد عبد العال يكتب .. المسافات  الآمنة بين الجنيه وكورونا

يعكس عنوان  المقال، عملية المبارزة بين عوامل استقرار سعر صرف  الجنيه المصرى  من ناحية ، وتداعيات فيروس كرونا المستجد من ناحية أخرى ، والتى أسفرت عن  هبوط  الجنيه المصرى  خلال الأسبوعين الماضيين متجاوزاً  حاجز الستة عشر جنيها لكل دولا ، وهو الأمر الذى ولد قدرا من المخاوف المشروعة لدى بعض من المتعاملين فى سوق الصرف ، وهو ما دعانا  للاهتمام  بمناقشة الأمر بموضوعية ، حتى نضع الأمور فى حجمها المعقول دون مبالغة فى التشاؤم أو التفاؤل .

نتفق جميعا أنه مع بداية تطبيق برنامج الإصلاح الإقتصادى والنقدي والمالى الناجح ، والمنسق مع صندوق النقد الدولى ، والذى  صاحبه فى الثالث من نوفمبر 2016 تعويم الجنيه المصرى ، ومنذ هذا التاريخ أصبح المحدد الوحيد لتحديد سعر الصرف هو ظروف العرض والطلب.

ومع  توالى  تنفيذ كل خطوة  فى برنامج الإصلاح الإقتصادي كانت تتحسن المؤشرات الإقتصادية الكلية ،وأيضا كانت تتحسن وتنمو مصادر مصر التقليدية من النقد الأجنبى ، وأهمها تحويلات المصريين فى الخارج وإيرادات السياحة وإيرادات قناة السويس وإيرادات  التصدير، وأيضا تحقق  نموا ملحوظا  فى حجم المتدفق من استثمارات الأجانب غير المباشرة فى أوراق الدين العام المحلى.

كل تلك العوامل كانت تدعم وتؤكد جانب عرض النقد الأجنبى وتوازنه مع احتياجات جانب الطلب  ، وهو الأمر الذى أعطى دفعات قوية لتحسن سعر الصرف لصالح الجنية ، ليصبح أفضل ثانى عملة  بين عملات الدول الناشئة  فى العالم .

وكانت توقعات معظم المراقبين والمتداولين أن سعر الصرف خلال العام الحالى 2020  سوف يشهد استقراراً ، مع ميل للإرتفاع نحو مستويات تتذبذب بين 14 و 13 جنيها مصرياً لكل دولار ، خلال ومع  نهاية العام الحالى.

وعضد من هذا التوجه ارتفاع إيرادات مصر من تصدير الغاز  الطبيعى ، والنمو المتتالي لاحتياطي النقد الأجنبى لدى البنك المركزى ، وتحسن الملاءة الإئتمانية لمصر ، الامر الذى وفر لها إمكانية طرح بعض إصدارات من السندات الدولية فى سوق السندات الأوروبي بتكلفة معقولة.

إذن ، قبل عدة أشهر كان الإقتصاد المصري فى أبهى حالاته ، وكان يسير دون عوائق أو تردد ، وبشهادة صندوق النقد الدولى ، قدما نحو تحقيق إنطلاقة إقتصادية ، وفقاً للخطط الموضوعة تماماً.

وفجأة صدمت جائحة كرونا العالم بأسره ووضعته ، ومصر ، فى خضم صدمة إقتصادية واجتماعية وصحية لم ير العالم مثيلا لها ، فى حجم وتنوع تداعياتها السلبية على كل الأنشطه والقطاعات الإقتصادية ، وهو ما أثر سلباً بالتالي على أسواق الصرف فى العالم.

ولان التقلبات السعرية فى أسواق الصرف ، سواء فى أسواق العملات الرئيسية العالمية أو عملات الدول الناشئة –  تلاحظ  – أنها فى عصر كورونا اقل حدة مقارنة بتقلباتها إبان أزمتىَ   1998 و 2008 ، الأمر الذى جعل من سيناريو ( الملاذ الآمن ) المنهج الرئيسى الذى يوجه المستثمرين والمضاربين فى أسواق  الصرف العالمية حالياً ، وهذا ما يفسر زيادة الطلب على عملات الدولار الأمريكى والين الياباني، وعلى وجهه الخصوص الفرنك السويسري خلال شهر مارس الماضي.

بالنسبة للجنيه المصرى، وأسوة بكل العملات فى كل أنحاء العالم  كان لابد أن يتأثر سعر صرفه سلباً ، وإلا سيكون هناك شك فى جدية التعامل الحر والصريح بآلية التعويم ، فنحن أمام وضع تقلصت فيه كل مصادر النقد الأجنبى التقليدية وغير التقليدية ، تحت وطأة صدمة كورونا ، وهو الأمر الذى جعلنا نلجأ الى استخدام جزئى من الإحتياطي النقدي، وأيضا نتوجه   لصندوق النقد الدولى للحصول على قروض دعم وفقا  لآلية الدعم السريعة  .

ولكن نعود ونسأل هل الهبوط الحالى وإن كان ضرورياً ، وهل هناك احتمال لاستمراره والى أى حد؟ أم أن الأمر سيقتصر على تلك التذبذبات المحدودة هبوطاً وصعوداً، ثم يعود الجنيه بعدها كما كان فى نظر غالبية المتعاملين والمستثمرين الأجانب عملة ملاذ آمن أثناء أزمة كرونا الحالية وما بعدها ؟ ، وبعد ذلك لكل حدث حديث او لكل مقام مقال .

ببساطة واختصار شديد هناك إثنى عشرة سبباً تبررالقول إن هذا التحرك الذى تمليه قوى السوق الإقتصادية المحلية والعالمية، وبعض الدوافع النفسية هو تحرك مؤقت ومرحلى .

  • نجاح الدولة فى التفاوض مع صندوق النقد الدولي فى الحصول على حزمة تمويلية ، وفقاً لبرنامج التمويل السريع قدرة 2.8 مليار دولار ، لتعزيز قدراتها على مواجهة أزمة فيروس كرونا ، وهناك ترتيبات لقرض آخر قدرة خمسة مليارات دولار من المحتمل أن تتسلم مصر أول جزء منه مطلع يوليو القادم .
  • نجاح مصر فى تنظيم وترتيب وطرح سند دولارى قبلت منه خمسة مليار دولار على شرائح محتلفةً الآجال لاستخدامه فى سد الفجوة التمويلية حتى نهاية العام.
  • نجاح تلبية إحتياجات الدولة بالكامل من النقد الأجنبى باستخدام جزئى من الإحتياطى النقدى، وتوفر إحتياطى قوى  يكفى سداد كامل إحتياجات مصر الخارجية لمدة تصل الى ثماني أشهر .
  • وجود فارق سعر فائدة إيجابى لصالح الجنيه المصرى بينه وبين فائدة عملات الدول الرئيسية وعملات الدول الناشئة الأخرى .
  • مع انخفاض معدل التضخم الى حدود دنيا أحادية ، فإن الجنيه المصري، يتيح عائد فائدة حقيقى على مدخرات القطاع العائلي، أفضل بكثير من الإستثمارات فى العملات الأخرى .
  • إيجابية السياسة النقدية التحفيزية فى خفض أسعار الفائدة من ناحية ، ومنح أسعار فائدة أكثر تميزاً موجه لتنشيط قطاعات معينة مؤثرة فى الإقتصاد القومى ، من خلال حزم مبادرات  تمويلية مختلفة ، وصاحب ذلك فى نفس الوقت إتاحة الفرصة لكلٍ من بنكي الأهلي ومصر، فى استحداث وعاء إدخارى جديد لمدة عام بسعر عائد مميز جداً ، تشجيعا للقطاع العائلى ، وتعويضا عن أى أضرار قد يتعرضوا لها من جراء أزمة كرونا.

ولا أخفى القول أن جزءا لا بأس به من حصيلة هذا الوعاء الإدخاري الجديد الإستثنائى كان مصدره الأساسى تنازلات محولة من  الدولار الى الجنيه المصرى، أو على الأقل لم تتوجه الى الدولار .

  • انخفاض اسعار النفط سوف يوفر لمصر حصيلة من النقد الأجنبى ، حيث أن مصر تستورد 35% من احتياجاتها من الخارج .
  • استمرار توقف مصادر الطلب التقليدية على النقد الأجنبى ، كالعمرة والسفر للخارج ، وانخفاض فاتورة الاستيراد بحكم حالة ( الإغلاق العالمى ) .
  • عدم إرتباط الجنيه المصرى بالعالم الخارجى كعملة مقبولة الدفع ، ولذلك فلا يوجد تأثير كبير ومباشر عليه نتيجة الإضرابات وصدمات الأسواق العالمية .
  • نية الدولة الواضحة والجادة فى تحريك الأنشطة الإقتصادية تدريجيا ، سواء فى الحكومة ، أو القطاع الخاص ، وهو ما يوحى بعودة الإقتصاد المصري لنقطة الإنطلاق .
  • شهادة صندوق النقد الدولى الإيجابية على مستقبل برنامج الإصلاح الإقتصادي المصري ، وقدرتة على إمتصاص الصدمات الخارجية ، وأيضا ، وفى ذات التوقيت إعلان  وتثبيت أهم وكالات التقيم الإئتمانى درجة التقيم الإئتمانى لمصر، مع إستمرار النظرة المستقبلية المستقرة.
  • إعلان معظم دول العالم على البدء فى تحريك الأنشطة الإقتصادية و، فتح الحدود وتشغيل الطيران والسفر ، وهو ما يوحى بقرب عودة السياحة ، وعودة تحسن إيرادات قناة السويس.

يؤكد المراقبون ، ويراهن الخبراء على أن كل تلك العوامل ستمثل مصدات ووسائد أمان لدعم العملة المصرية خلال الفترة القادمة .

ويبقى السؤال :ما هو سعر الصرف المتوقع تداوله للجنيه المصرى خلال الأشهر الثلاث القادمة ؟

قبل وضع أى تقدير نسارع بالقول إن الوضع الإقتصادي المصري ، وبالتالى العملة المصرية ، وما تعرضنا له من صدمات تحت تداعيات أزمة كرونا لا يجب فصله على الإطلاق عن الأوضاع والأزمة العالمية ، وهو الأمر الذى يضعنا والعالم كله أمام سيناريوهات متنوعة واحتمالات متشعبة فى ظل حالة من عدم اليقين.

نحن لا نعلم يقينا متى ينحسر الوباء ؟ ومتى  يعود العالم لحركته الإقتصادية ؟ ومتى يتفكك الإنغلاق العالمى ، وهنا فإن أزمة أية عملة بما فيها الجنيه المصرى تزداد غموضاً حينما تتعدد الإحتمالات المستقبلية  .

ورغم هذا ، وعلى ضوء تحليلنا السابق لوسائد ومصدات الحماية للجنيه المصرى ، يمكن القول ، توقعاً ، إن سعر الصرف سيواجه مقاومة محدودة حول سعر الستة عشر جنيها ، على أن تكون نقطة الدعم التالية هى عند الستة عشر ونصف جنيه لكل دولار.

وسيكون هذا المدى السعرى مناسبا لتشجيع الصادر والسياحة والمستثمرين الأجانب فى أوراق الدين العام المحلية ،  بعد ثلاثة أشهر ربما تكون عجلة الإقتصاد المحلى والعالمي قد دارت ، وبدأت عودة تدفق النقد الأجنبى الى معدلاته الطبيعية تدريجيا ، عندها ربما يستمر السعر على مستواه المتوقع ستة عشر ونصف حتى نهاية العام ، حيث لن يكون هناك أية مصلحة فى هبوط الجنيه لأكثر من ذلك، تجنبا لارتفاع فاتورة الإستيراد ، ومن ثم نتعرض لمخاطر عودة الضغوط التضخمية.

محمد عبد العال / الخبير المصرفي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى