دكتور زكريا صلاح يكتب : الاختيار “3” “مهمة إنقاذ الإقتصاد المصري”
إن المشاهد للملاحم الوطنية فيما تم عرضه بالاختيار “1” ويتم عرضه الآن بالاختيار ” 2″ يستطيع أن يدرك حجم التضحيات والتحولات في الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية التي حدثت في مصر خلال الفترة الماضية ، وأن مصر مليئة بالمخلصين والمحبين لأوطانهم من الرجال وأصحاب الأفعال لا الأقوال من أبناء القوات المسلحة والشرطة البواسل، وبتوجيه ودعم القيادة السياسية، الذين كانت مهمتهم الأساسية الحفاظ على مقدرات الوطن وإنقاذه من التشرذم والتهجير والحفاظ على الوطن ودعائمه وتثبيت أركانه ، وعلى جانب هذه المهام العظيمة كان يجب القيام إلى جانب ذلك بمهمة أخرى هدفها إنقاذ الاقتصاد المصرى.
ليس من شك في أن الإستقرار السياسي والأمني يدعم تحقيق معدلات النمو الإقتصادي المستهدفة، ولقد صاحب ثورة يناير 2011 مجموعة من الأوضاع الإقتصادية الصعبة، والتي إشتدت صعوبتها فيما بعدها ، حيث نتج عن حدوث الثورة إستنزاف لموارد الدولة ونضوب في الإستثمار الأجنبي المباشر ، وهروب رؤوس الأموال، وانخفاض هائل في موارد الدولة من النقد الأجنبي ، ودخول الدولة في مشكلة توافر السيولة اللازمة للنشاط الإقتصادي، وظهور السوق السوداء كسوق مواز لسوق الصرف الأجنبي كما انخفض التصنيف الائتماني للدولة ، الأمر الذى ينعكس على تكلفة الإقتراض من الخارج، وانعكاس ذلك كله على ضعف الموقف الخارجي لمصر والاحتياطيات من العملة الأجنبية والنمو الاقتصادي، وهو الأمر الذى تحتم معه إتخاذ قرار تعويم سعر الصرف لإنقاذ الاقتصاد المصري من خلال تحسين التنافسية الخارجية ودعم الصادرات والسياحة وجذب الاستثمار الأجنبي وخلق الوظائف للحد من زيادة معدلات البطالة.
ومن مظاهر الأوضاع الاقتصادية في هذه الفترة إنخفاض الاحتياطيات من النقد الأجنبي من 35.2 مليار دولار عام 2010 إلى 26.6 مليار دولار في عام 2011 ثم إلى 15.5 مليار دولار في 2012 ثم إلى 14.9 مليار دولار في عام 2013، وكذلك إنخفاض حجم الاستثمار الأجنبي المباشر كنسبة من إجمالي الناتج المحلى من 2.9% في عام 2010 إلى -0.2% في عام 2011 ثم إرتفاعه إلى 1% في عام 2012 ثم إلى 1.5% في عام 2013 وهي أرقام متواضعة جداً.
مع هذه الأوضاع كان يجب تدخل البنك المركزى المصرى في 3 نوفمبر 2016 باتخاذ قرار تعويم الجنيه المصري ، ورفع سعر العائد 3% دفعة واحدة، وذلك لمحاربة السوق السوداء وعودة النقد الأجنبى إلى السوق المصرفي، ولم يمر أسبوع على قرار التعويم وقد انتعش سوق الأوراق المالية المصرى بمعدل نمو 4.5%، وخلال شهر واحد عاد حوالى 3 مليارات دولار إلى البنوك ، كانت تتداول خارجها، وزادت الصادرات لاحقاً بنسبة 8.7%، وتحولت مصر لتكون القبلة الأولى في إفريقيا لإستقبال الاستثمار الأجنبي، وقرر صندوق النقد الدولي في 11 نوفمبر 2016 تقديم حزمة تمويلية لم تحدث في تاريخ الشرق الأوسط بلغت 12 مليار دولار أمريكي، تصرف على دفعات، وتم صرف أول دفعة البالغة 2.7 مليار دولار في 15 نوفمبر 2016.
وقد إنعكس قرار التعويم أيضاً في تحقيق مجموعة من المؤشرات الإيجابية بالنسبة للإقتصاد المصرى، ففيما يتعلق بالتصنيف الإئتمانى لمصر فقد ارتفع من وجهة نظر مؤسسة فيتش من B- مع نظرة مستقبلية سلبية في عام 2013 الى B+ منذ مارس 2019 إلى الآن مع نظرة مستقبلية مستقرة ، وزادت جاذبية أوراق الدين المصرية بالنسبة للمستثمرين، حيث أن أية إصدارات يتم تغطيتها بعدد كبير من المرات، الأمر الذي يعكس حجم الثقة في الاقتصاد القومي وقدرة مصر على السداد، واستمرار مصر في تحقيق نمو اقتصادي بمعدل 3.6% عام 2020، وذلك بالرغم من انكماش الاقتصاد العالمي، علماً بأنه سجل قبل أزمة كورونا 5.6% عام 2019، مقارنة بـ 4.2% عام 2017، وقد تراجع سعر صرف الدولار مقابل الجنيه ليسجل 15.7 جنيه في نوفمبر 2020، علماً بأنه كان قد سجل 16.2 جنيه في الشهر ذاته عام 2019، مقارنة بـ 18.1 جنيه بنهاية نوفمبر 2016، وانخفض المتوسط السنوي لمعدل التضخم إلى 5.7% عام 2020، وذلك مقارنة بـ 13.9% عام 2019، و23.5% عام 2017، وإستمرت الصادرات المصرية في الصمود أمام تراجع حركة التجارة العالمية هذا العام في ظل أزمة كورونا، حيث وصلت قيمة إجمالي الصادرات إلى 22.8 مليار دولار في الفترة من يناير حتى أكتوبر 2020، مقارنة بـ 25.3 مليار دولار في ذات الفترة من عام 2019، و18.4 مليار دولار في الفترة نفسها لعام 2016، وارتفعت الإحتياطيات الدولية إلى ما يفوق 40 مليار دولار.
إن إختيار إتخاذ وتنفيذ قرار تعويم سعر الصرف من قبل البنك المركزي المصري، وبدعم من القيادة السياسية، يعد أهم القرارات الإقتصادية في تاريخ مصر الإقتصادى خلال الخمسة عشر عاما الأخيرة، والذى نقل الاقتصاد المصري من القتامة إلى السلامة، يعد الإختيار “3” بكل المقاييس لأنه ساهم في إنقاذ الإقتصاد المصري من الإنهيار، وانهيار أسعار الصرف لمستويات أبعد بكثير مما عليه الآن.
فلك أن تتخيل أنه كان يمكنك أن تدفع 1500 جنيه، على سبيل المثال، لشراء كيلو من السكر وخلافه ، إذا لم يتدخل متخذ القرار لوقف النزيف والتدهور في الأوضاع الإقتصادية التي تبعت فترة عدم الإستقرار، بداية من عام 2011.
وعلى الرغم مما تبع قرار التعويم من انخفاض في سعر صرف الجنيه وارتفاع معدلات التضخم بصورة كبيرة مع انخفاض الدخول والتأثير السلبى على القوى الشرائية للجنيه، إلا أنه مع مرور الوقت ثبتت جدوى وفاعلية إتخاذ قرار التعويم، وتبين أنه لولا إتخاذ هذا القرار، وفى هذا التوقيت، لما كانت الأوضاع الإقتصادية الحالية الآن، وما استطاعت مصر أن تشهد هذه الطفرة في البنية الأساسية والتطوير والنمو ، وما إستطاعت مصر تجاوز أزمة إنتشار فيروس كورونا.
وقد أشار صندوق النقد الدولي إلى أن مصر تتصدر الأسواق الناشئة في معدل النمو الإقتصادي ، كما أنها الدولة الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا التي تحقق نمواً اقتصادياً عام 2020، وهو ما أكدت عليه أيضاً وكالة بلومبرج، فضلاً عن تصنيفها لمصر ضمن قائمة أسرع عشر اقتصادات تحقيقاً للنمو في العالم.
كما صنفت وكالة فيتش الجنيه المصري ضمن أفضل عملات الأسواق الناشئة أداءًا عام 2020، على الرغم من تراجع أغلب عملات الأسواق الناشئة.
كما أكد صندوق النقد الدولي على تحقيق مصر أكبر تراجع سنوي في معدل التضخم في الأسواق الناشئة عام 2020، ومازالت إشادة المؤسسات الدولية بما تحقق على الجانب الإقتصادى وستستمر مصر في تنفيذ برامج الإصلاح في ظل تهيئة البيئة الإقتصادية لذلك.
وتحيا مصر وتحيا القيادة السياسية ويحيا قيادات البنك المركزى المصرى لتنفيذ هذا القرار الصعب والشجاع ويحيا الشعب المصري الذى إستجاب لتبعيات قرار التعويم.
دكتور زكريا صلاح الجندى – الخبير المصرفي